اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

قال الله : { يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل ، أنه كان ابناً له ، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك . وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك .

قوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } : قرأ{[18830]} الكسائيُّ " عَمِلَط فعلاً ماضياً ، و " غيرَ " نَصْباً .

والباقون : " عَمَلٌ " بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ ، و " غَيْرُ " بالرَّفع .

فقراءةُ الكسائي : الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ ، وفاعل " عَمِلَ " ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً ، و " غَيْرَ " مفعولٌ به . ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : عمل عملاً غير صالح كقوله { واعملوا صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] . وقيل : إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه .

وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ :

أظهرها : أنَّه عائدٌ على ابن نوح ، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في " رجل عدل " ، و " زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ " .

والثاني : أنه يعودُ على النداء المفهوم من قوله : " ونَادَى " أي : نداؤك وسؤالك .

وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ . وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ{[18831]} ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام - ؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال : " ليسَ بذاك " ولقد أصاب . واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد .

الثالث : أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله : " اركب مَعَنَا " .

الرابع : أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب ، وكونه مع المؤمنين ، أي : إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح ، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عليه الصلاة والسلام - ، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح ، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط ، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى .

وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلاَّ قيل : إنَّه عملٌ فاسدٌ . قلت : لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك .

قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِي } قرأ نافع وابن عامرٍ " فلا تَسْألنِّ " بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء . وابن كثير بتشديدها مع الفتح ، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة ، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو ، ودون ياء في الحالين للكوفيين{[18832]} . وفي الكهف { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الكهف : 70 ] قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا ، وافقهم ابنُ كثير في الكهف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها ، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم ؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ ، فلا يوافق فيها فتحها . وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ .

فمن خفَّف النون ، فهي نونُ الوقاية وحدها ، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد .

وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم ، والباقون جعلوه . فلزمهم الكسرُ . وقد تقدَّم أنَّ " سَأَلَ " يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم ، والثاني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .

قوله : " أن تكون " على حذف حرف الجر ، أي : مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن ، وقوله : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يجوزُ في " بِهِ " أن يتعلَّق ب " عِلْم " .

قال الفارسيُّ : ويكون مثل قوله : [ الرجز ]

كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا{[18833]} *** . . .

ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به " لَكَ " ، والباء بمعنى " في " ، أي ما ليس لك به علمٌ . وفيه نظرٌ .

ثم قال : { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } يعني أن تدعو بهلاك الكفار ، ثم تسأل نجاة كافر .


[18830]:ينظر: الحجة 4/341 وإعراب القراءات السبع 1/283 وحجة القراءات 341 وقرأ بها أيضا يعقوب ينظر: الإتحاف 2/127 والمحرر الوجيز 3/177 والبحر المحيط 5/229 والدر المصون 4/104.
[18831]:في أ: عقيم.
[18832]:ينظر اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة 4/344، 345 ص 343، 344 والإتحاف 32/127 والمحرر الوجيز 3/177 والبحر المحيط 5/230 والدر المصون 4/104.
[18833]:تقدم.