اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

قوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا " كن " .

{ وَفَارَ التنور } اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض{[18783]} ، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض ، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك .

وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصَّباح{[18784]} وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه . وقيل : " فَارَ التَّنُّورُ " يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ .

ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة .

وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه{[18785]} . وهو قول أكثر المفسِّرين ، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس{[18786]} .

قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ ، كانت حواء تخبزُ فيه ، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام -{[18787]} واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة{[18788]} وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة{[18789]} . وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام{[18790]} وقيل : عين بالهند .

قال الزمخشريُّ : " حتَّى " هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء ، ووقعت غاية لقوله { وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في " التَّنُّور " قيل : للعهدِ . وقيل : للجنس .

ووزن " تَنُّور " قيل : " تَفْعُول " من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها . ثم حذفت تخفيفاً ، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب .

وقيل : وزنه " فَعُّول " ويعزى لأبي علي الفارسيِّ . وقيل : هو أعجميٌّ ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له . والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون .

ومعنى " فَارَ " أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار ، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور .

قال اللَّيْثُ - رحمه الله - : " التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب ، فيصير عربيّاً ، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل " تَنَرَ " ، ولا يعرفُ في كلام العرب " تنر " وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار ، والسُّندس ، والإستبرق ، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها ؛ فصارت عربيةً " . قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور ، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة .

قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } قرأ العامَّة بإضافة " كُل " ل " زَوْجَيْنِ " .

وقرأ حفص{[18791]} بتنوين " كُل " ، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول " احْمِلْ " " اثْنَيْن " ، و " مِنْ " كُلِّ زَوْجَيْنِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول ؛ لأنه كان صفة للنَّكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل " مِنْ " زائدة ، و " كُل " مفعول به ، و " اثْنَيْن " نعت ل " زَوْجَيْن " على التَّأكيدِ ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة " مِنْ " مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب .

وقيل : قوله : " زَوْجَيْن " بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } وهو قولُ الفارسيِّ وغيره .

قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ .

قال - سبحانه وتعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، ويقال للمرأة زوجٌ ، قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ ، قال تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ] .

فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج ، يقال زوج خفٍّ ، وزوج نَعْلِ ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى .

وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف ، و " زَوْجَيْن " مفعولٌ به ، و " اثْنَيْنِ " نعتٌ على التأكيد ، كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ، و " مِنْ كُلّ " على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب " احْمِلْ " وهو الظَّاهرُ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " زَوْجَيْنِ " وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة " قَدْ أفْلَحَ " .

فصل

اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : " زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " غير الحيوانِ أم لا ؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد ، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخوله لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه .

قال ابنُ الخطيب : " وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته ؟ قال الله - تعالى - : " فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى " {[18792]} وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر ، وليست به حُمَّى " .

وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلَّط الله عليه الحمى ، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسدِ ، فعطس الأسد فخرجت الهرة ؛ فتخبأت الفأرة منها{[18793]} .

قوله : " وأهْلَك " نسقٌ على " اثْنَيْنِ " في قراءة من أضاف " كُل " ل " زَوْجَيْنِ " ، وعلى " زَوْجَيْنِ " في قراءة من نوَّن " كُل " وقوله : " إلاَّ من سبقَ " استثناءٌ متصل في موجب ، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور .

وقوله : " وَمَنْ آمَنَ " مفعول به نسقاً على مفعول " احْمِلْ " .

فصل

روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين ؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير ، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة .

والمراد بأهله : ولده وعياله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان .

" ومَنْ آمَنَ " يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . قال قتادةُ وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي : لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين سام وحام ويافث{[18794]} ونساؤهم .

وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن{[18795]} وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعاً{[18796]} .

وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وبنيه الثلاث ونساءهُم{[18797]} .

فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء .

وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً ، أحدهم جرهم ، يقال : إنَّ في ناحية " المَوْصِل " قريةً ، يقال لها : قريةُ الثَّمانين ، سمِّيت بذلك ؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها ، فسُمِّيت بهم{[18798]} .

قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم ، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء{[18799]} .

وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين ؛ فالحشرات ، والبقِّ ، والبعوض ؛ فلم يحمل منه{[18800]} . ثم قال تعالى { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، أما امرأةُ نوحٍ ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك ؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك .

فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات ؟

فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه ، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات ؛ فلهذا وقع الابتداء به .

فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل .

فصل

احتجوا بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الواجب ، لأنَّ قوله { سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ } يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه " {[18801]} .


[18783]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/38-39) عن ابن عباس وعكرمة والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/596) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (2/383).
[18784]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/39) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/596) وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/383).
[18785]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/40) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والشعبي. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/383).
[18786]:انظر الأثر السابق.
[18787]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/383).
[18788]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/40) عن مجاهد والشعبي وذكره البغوي في "تفسيره" (2/383) عنهما.
[18789]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/595) وعزاه إلى أبي الشيخ.
[18790]:ذكر الرازي في "تفسيره" (17/180).
[18791]:ينظر: الحجة 4/324 وإعراب القراءات السبع 1/280 وحجة القراءات 339 والإتحاف 2/125 والمحرر الوجيز 3/171 والبحر المحيط 5/223 والدر المصون 4/98.
[18792]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/181).
[18793]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/599) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا.
[18794]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/42-43) عن قتادة وابن جريج وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/601) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.
[18795]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/43).
[18796]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/384) وأخرجه الطبري (7/43).
[18797]:انظر المصدر السابق.
[18798]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/43) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/601) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18799]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/384).
[18800]:انظر المصدر السابق.
[18801]:أخرجه البزار (2150-كشف) والطبراني في "الصغير" (2/5) والبيهقي في "الاعتقاد" ص (139) من حديث أبي هريرة. وله شاهد من حديث ابن مسعود مرفوعا: أخرجه ابن أبي عاصم (178) والقضاعي في "مسند الشهاب" (76) وأخرجه مسلم (2645) عن ابن مسعود موقوفا.