اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

فصل

لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال : { سآوي إلى جَبَلٍ } سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل { يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } يمنعني من الغرقِ ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر ، فعند هذا قال نوحٌ : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } أي : من عذابِ الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } . وههنا سؤال :

وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم ؟

والجواب من وجوه :

الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع ، وذلك أن تجعل " عَاصماً " على حقيقته ، و " مَنْ رَحِمَ " هو المعصوم ، وفي " رَحِمَ " ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى ، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو " مَنْ " حذف لاستكمالِ الشروطِ ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله ، لكن من رحمه الله فهو معصوم .

الثاني : أن يكون المراد ب " مَنْ رَحِمَ " هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ .

الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم ، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْقُوق ؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]

بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ *** مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا{[18824]}

أي : مَفْتُوناً ، و " مَنْ " مرادٌ بها المعصومُ ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رحمه الله فإنَّه يُعْصَمُ .

الرابع : أن يكون " عاصم " هنا بمعنى النَّسب ، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم ، والمراد به هنا المعصوم .

وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر ، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة .

وأمَّا خبرُ " لا " فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً ، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ ؛ وجب حذفه عند تميم ، وكثر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصم موجودٌ .

وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم . قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبراً فيتعلَّق بالاستقرار ، وبه يتعلق " منْ أمْرِ اللهِ " .

وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ " لا " فلا يجوزُ أن يكون " اليَوْمَ " ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة ، بل الخبرُ " مِنْ أمْرِ الله " و " اليَوْمَ " معمولُ " مِنْ أمْرِ اللهِ " .

وأمَّا اليَوْمَ " و " مِنْ أمْرِ الله " فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً ، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً ، ويجوزُ في " اليَوْمَ " أن يتعلق بنفس " مِنْ أمْرِ الله " لكونه بمعنى الفعل .

وجوَّز الحوفيُّ أن يكون " اليَوْمَ " نعتاً ل " عَاصِمَ " وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة{[18825]} .

وقرىء " إلاَّ مَنْ رُحِمَ " مبنيّاً للمفعول ، وهي مقويةٌ لقول من يدعي أنَّ " مَنْ رَحمَ " في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم ، كما تقدَّم تأويلهُ . ولا يجوزُ أن يكون " اليوْمَ " ولا " مِنْ أمْرِ الله " متعلقين ب " عَاصم " وكذلك الواحد منهما ؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب ، ومتى أعرب نُوِّن ، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم " لا " معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً .

ثم قال سبحانه وتعالى : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ } فصار { مِنَ المغرقين } .

روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر ذراعاً .


[18824]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/227 واللسان (فتن) وروح المعاني 12/90 والقرطبي 9/28 والدر المصون 4/102.
[18825]:ينظر: الكشاف 2/397، البحر المحيط 5/228، والدر المصون 4/102.