اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ} (14)

قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } من باب إضافة الموصوف إلى صفة ، والأصل له الدعوة الحق ، كقوله { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] على أحد الوجيهن .

وقال الزمخشري فيه وجهان :

أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل ، كما يضاف الكلمة إليه في قوله : " كَلمةُ الحَقُّ " .

الثاني : أن تضاف إلى " الحقِّ " الذي هو " لله " على معنى : دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب .

قال أبو حيَّان : " وهذا الوجه الثاني لا يظهر ؛ لأنه مآله إلى تقدير : لله دعوة الله ، كما تقول : " لزيد دعوة زيد " ، وهذا التركيب لا يصحُّ " .

قال شهاب الدين : " وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به " ؟ .

فصل

معنى قوله : " دَعْوةُ الحقِّ " ، أي لله دعوة الصدق .

قال عليُّ : دَعْوةُ الحقِّ : التَّوحيد . وقال ابن عباس رضي الله عنه شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف ، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه " ، كما قال : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] .

قال الماورديُّ : وهو أشبه لسياق الآية ؛ لأنه قال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعنى الأصنام : { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } ، أي لا يجيبون لهم دعاء ، ولا يسمعون لهم نداء .

{ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } . ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم .

قوله : { والذين يَدْعُونَ } يجوز أن يراد ب " الَّذينَ " المشركون ، فالواو في : " يَدعُونَ " عائدة ، ومفعوله محذوف ، وهو الأصنام ، والواو في " لا يستجيبون " عائدة على مفعول " تَدْعَونَ " المحذوف ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم ، والتقدير : والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد ، ولا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ، ولا يقدر أن يجيبه ، ويبلغ فاه ، قال معناه الزمخشريُّ .

وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا ، وقدر التقدير المذكور ، قال : " والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول ، كقوله : { لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } [ فصلت : 49 ] وفاعل هذا المصدر مضمر ، وهو ضمير الماءِ أي : لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه ، والإجابة هنا كناية عن الانقياد " .

وقيل : ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده ؛ ليشرب ، فيبسطها ناشراً أصابعه ، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ، ولم يبلغ مطلوبه من شربه .

قال الفراء : المراد بالماء هاهنا : البئر ؛ لأنَّها معدن الماءِ ، ويجوز أن يراد ب " الَّذينَ " الأصنام أي : والآلهة ، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة ، والتقدير : كما تقدَّم في الوجه قبله .

وإنَّما جمعهم جمع العقلاء ؛ إمَّا للاختلاط ، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد ، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم ، قالوا : الواو في " يَدعُونَ " للمشركين والعائد المحذوف للأصنام ، وكذا واو : " يَسْتَجِيبون " .

وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو : " تَدْعُونَ " بالخطاب : " كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ " بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .

قوله : " ليَبْلُغَ " في : " بَاسط " ، وفاعل : " يَبلُغَ " ضمي الماء ؟

قوله : { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في " هُوَ " ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير الماءِ ، والهاء في : " بِبَالغِه " للفم ، أي : وما الماء ببالغ فيه .

الثاني : أنه ضمير الفم ، والهاء في " بِبالغِهِ " للماء ، أي : وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان .

الثالث : أن يكون ضمير الباسط ، والهاء في : " بِبالغِهِ " للماء ، أي : وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء .

ولا يجوز أن يكون " هُوَ " ضمير " البَاسط " ، وفاعل " بِبَالغهِ " مضمراً والهاء في " بِبَالغهِ " للماء ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له ، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل ، فكان التركيب هكذا : وما هو ببالغ الماء ، فإن جعلنا الضمير في " ببَالغهِ " للماء ؛ جاز أن يكون : " هُوَ " ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره .

والكاف في " كباسط " إما نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ذلك المصدر ، كما تقدم تقريره .

وقال أبو البقاء : " والكاف في " كَباسطِ " إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف ، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير " .

قال شهابُ الدِّين : " وكون الكاف اسماً في الكلام ، لم يقل به الجمهور ، بل الأخفش . ويعني بالموصوف ذلك المصدر ، والذي قدره فيما تقدَّم " .

ثم قال : { وَمَا دُعَآءُ الكافرين } أصنامهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه ، كقوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } [ فصلت : 48 ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنه : { وَمَا دُعَآءُ الكافرين } ربهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ .

وقيل : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ في ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنَّ الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم .