اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ} (19)

قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم ، وإعراضهم عن قبول الحق ، وأنَّ الله -تعالى- لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً ، وكيف يليق بالحكمة أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب ؟

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } قرأ أبو عبد الرحمان رحمه الله تعالى{[19197]} : بسكون الراء ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف .

والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم ، فقالوا : " ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان " فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم ، ونظيره " لَمْ أبَلْ " فإن أصله : أبالِي ، ثم حذفوا لامه رفعاً ، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه ، وتوهموا الجزم في اللام ، والرُّؤية هنا قلبية ف " أنَّ " في محل المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف .

وقرأ الأخوان{[19198]} هنا : ( خالق السماوات والأرض ) " خَالِقُ " اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه ، وهو " الأرض " ، وفي " النور " : " خالقُ كُلِّ دابّةٍ " [ آية : 45 ] اسم فاعل مضاف لما بعده ، والباقون : " خَلَقَ " فعلاً ماضياً ، ولذلك نصبوا : " الأرْضَ " و{ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] وكسر " السماوات " في قراءة الأخوين خفض ، وفي قراءة غيرهما نصب ، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب " الأرْضَ " على أحد وجهين ، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون " السماوات " منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به .

و " بِالحقِّ " متعلق به " خَلَقَ " على أنَّ الباء سببيَّة ، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل ، أي : محقَّا ، أو من المفعول ، أي : متلبسة بالحق .

قوله " بالحَقِّ " تقدم نظيره في يونس { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } [ يونس : 5 ] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح .

قم قال -عزَّ وجلَّ- { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : من كان قادراً على خلق السماوات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على [ إفناء ]{[19199]} قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين أولى ؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم ؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى .

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار ، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم{[19200]} .


[19197]:ينظر: المحرر الوجيز 3/332 والبحر المحيط 5/406 والدر المصون 4/259.
[19198]:ينظر: السبعة 362 والحجة 5/28 وإعراب القراءات السبع 1/334، 335 وحجة القراءات 376، 377 والإتحاف 2/167، والمحرر الوجيز 3/332 والبحر المحيط 5/406 والدر المصون 4/259.
[19199]:في أ: قيام.
[19200]:ذكره الرازي في"تفسيره" (19/84).