اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

قوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم ، وكيفية افتضاحهم عندهم .

و " بَرَزَ " معناه في اللغة : ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره .

وقيل : في قوله تعالى : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] أي : ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ : إذا كانت تظهر للنَّاس ، ويقال : فلانٌ برز على أقرانه ، إذا فاقهم وسبقهم ، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل : بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها .

وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال ؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق ، فصار كأنه قد حصل ، ودخل في الوجود ، كقوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] .

فصل

البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ ، فلا بد من التأويل ، وهو من وجوه :

الأول : أ ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله -تعالى- فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله -تعالى- وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية .

والثاني : أنَّهم خرجوا من قبورهم ، فبرزوا لحساب الله -تعالى- قالت الحكماءُ :

إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء ، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله -تعالى- .

ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء " إنّا كنا لكم تعباً " أي : إنما اتبعناكم لهذا اليوم " فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ " دافعون : { عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } .

و " تَبَعاً " يجوز أن يكون جمع تابع ، كخَادِم وخَدَم ، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر ، وحَارِس وحَرَس ، ورَاصِد ورَصَد .

ويجوز أن يكون مصدراً ، نحو : قَوْمٌ عَدْلٌ ، ففيه التأويلات المشهورة .

قوله : { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } في " مِنْ " و " مِنْ " [ أربعة ] أوجه :

أحدها : أنَّ " مِنْ " الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، تقديره : مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله ، قاله الزمشخريُّ .

قال أبو حيان{[19201]} : هذا يقتضي التقديم في قوله : " مِنْ شيءٍ " على قوله : " من عذاب الله " ؛ لأنه جعل " من شيء " هو المبين بقوله : " من عذاب الله " و " من " التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر .

قال شهاب الدِّين{[19202]} : كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى ؛ فإن " من عذاب الله " لو تأخر عن " شيء " كان صفة له ، ومبيناً ، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال ، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير .

الثاني : أن يكونا للتبعيض معاً ، بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ؛ أي : بعض بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري .

قال أبو حيان : وهذا يقتضى أن يكون بدلاً ، فيكون بدل عام من خاص ، وهذا لا يقال ؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض .

قال شهاب الدين : لا نزاع أنه يقال : بعض البعض ، وهي عبارة متداولة ، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله ، وهذا كالجنس المتوسط ، هو نوع لما فوقه ، جنس لما تحته .

الثالث : أن " مِنْ " في " مِنْ شَيءٍ " مزيدة ، و " مِنْ " في " مِنْ عذابِ " فيها وجهان :

أحدهما : أن تتعلق بمحذوف ؛ لأنها في الأصل صفة ل " شيء " فلما تقدمت نصبت على الحال .

والثاني : أنها تتعلق بنفس " مغنون " على أن يكون " من شيء " واقعاً موقع المصدر ، أي : غناء ، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء -رحمه الله تعالى- قال : و " من " زائدة أي شيئاً كائناً من ذاب الله سبحانه وتعالى ، ويكون محمولاً على المعنى ، تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً ؟ ويجوز أن يكون " شيء " واقعاً موقع المصدر ، أي غناء ، فيكون " من عذاب الله " متعلقاً ب " مغنون " ، و " من " في " من شيء " لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد .

فصل

هذه التبعية يحتمل أن يكون المراد منها التبعية في الكفر ، ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا ، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء : " لو هدانا الله لهديناكم " قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم . قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال ؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم ، فدعوا أتباعهم إلى الضلال ، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى .

قال الزمخشري{[19203]} : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ } [ المجادلة : 18 ] .

واعلم أن المعتزلة{[19204]} لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه ، فلا يقبل .

وقال الزمخشري{[19205]} : يجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف ، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان .

وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف ؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى .

وقيل : لو خلصنا الله من العذاب ، وهدانا إلى طريق النجنة ، لهديناكم ؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه .

قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْنَآ } إلى آخره فيه قولان :

أحدهما : أنه من كلام المستكبرين .

والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً ، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار ، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة .

والجَزَعُ : عدمُ احتمالِ الشدَّة ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً *** وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِب مُولعَا{[19206]}

وقال الراغب{[19207]} : " أصل الجَزْعِ : نقطعُ الحَبْلِ ، يقال : جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه : جِزْعُ الوادي لمنقطعة ، ولانقطاع اللون بتغيره .

وقيل للخرز المتلون : جِزْع ، واللحم المُجَزَّعُ : ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة : أن تبلغ الأرطاب نصفها ، والجَاذِعُ : خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت " .

والجَزَع أخص من الحزن ، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده .

والمَحِيصُ : يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب ، ويكون اسم مكان ، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال : حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد ، ويقال : خاض -بالضاد المعجمة ، وجصنا بها بالجيم .

والمعنى : ما لنا من ملجأ ولا مهرب .


[19201]:نظر: البحر المحيط 5/407.
[19202]:ينظر: الدر المصون 4/260.
[19203]:ينظر: الكشاف 2/549.
[19204]:ينظر: الفخر الرازي 19/86.
[19205]:ينظر: الكشاف 2/549.
[19206]:ينظر: ديوانه (99) ، البحر المحيط 5/404، الدر المصون 4/261.
[19207]:ينظر: المفردات 92.