اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } .

قوله : { وَعْدَ الحق } يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، كقوله تعالى : { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] ومسجد الجامع ، أي : الوعد الحق ، وأن يراد ب " الحقِّ " صفة الباري -تعالى- ، أي : وعدكم الله وعده الحق ، وأن يراد ب " الحَقِّ " البعث ، والجزاء على الأعمال ، فتكون إضافة صريحة .

وقيل : وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً ، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين :

الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد ؛ لأنهم شاهدوه .

والثاني : قوله : ووعدتكم فأخلفتكم الوعد ، يقتضي مفعولاً ثانياً ، وحذف للعلم به تقديره : ووعدتكم أن لا جنّة ، ولا نار ، ولا حشر ، ولا حساب .

فصل

لما [ ذكر ]{[19208]} الله -سبحانه وتعالى- المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } قال المفسرون : إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة ، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، فيقوم فيما بينهم خطيباً ، فيقول : " إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ " .

وقيل : المراد من قوله تعالى : { لَمَّا قُضِيَ الأمر } أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله ! .

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي .

قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تَحِيَّتُهم إلاَّ الضرب .

والثاني : أنه متصل ؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلُّط .

وقرئ{[19209]} " فَلا يَلُومُونِي " بالياء من تحت الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .

ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام .

ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله ؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليَّ ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ .

قالت المعتزلة{[19210]} : هذه الآية تدل على أشياء :

أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله -تعالى- لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله -تعالى- قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه .

والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله .

والثالث : يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم .

وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به .

وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبينه الله -تعالى- وأظهر إنكاره ، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد .

ألا ترى أن قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كلام حق ، وقوله { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } قول حق بدليل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] .

قال ابن الخطيب -رحمه الله- : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [ الأصلي ] {[19211]} هو النفس ؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة ، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس .

فإن قيل : لِمَ قال الشيطان : " فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ " وهو ملوم بسبب وسوسته ؟ .

فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم : " ولوموا أنفسكم " عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله -تعالى- لكم .

قوله تعالى : { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } العامَّة على فتح الياءِ ؛ لأن ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً ، لاسيما وقبلها كسرتان .

وقرأ حمزة بكسرها{[19212]} ، وهي لغة بني يربوع ، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضطراباً شديداً ، فمن مجترئ عليها ، ملحن لقارئها ، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع ، والأصل : بمُصرخينَ لي [ فحذفت ]{[19213]} النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، ومن مجوِّز لها بضعف .

قال حسين الجعفيُّ -رحمه الله- : سألت أبا عمرو عن كسر الياء ؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم .

ومنها : سألت أبا عمرو ، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها ، فقال : هي جائزة أيضا ، إنما أراد تحريك الياء ، فلست تبالي إذا حركتها إلى أسفل أم إلى فوق . وعنه : من شاء فتح ، ومن شاء كسر .

ومنها : أنه قال : إنها بالخفض حسنة ، وعنه قال : قدم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألته هن القرآن ، فوجدته به عالما ، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش ، [ واستقر ]{[19214]} به : { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجر ، فقال : هي جائزة ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها .

وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة ، ولا التفات إليه ؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن ، واللغة ، والنحو ، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني : [ البسيط ]

وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ *** لمْ يَسْتطِعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَناعِيسِ{[19215]}

ثم ذكر العلماء في ذلك التوجيهات :

منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين ، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون ، فلما التقيا كسرت ؛ لالتقاء الساكنين .

الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و " هاء " الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة ، وبياء إذا كانت مكسورة ، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة ؛ فتكسر كما تكسر الهاء في : " عَليْهِ " ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو " عليهي " بياء ، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة ، إذ أصله يقتضي عدمها .

وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع .

قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء ؛ وأنشد : [ الرجز ]

مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ *** قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ{[19216]}

وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً ، فهو مما يلتقي من السكانين فنخفض الآخر منها .

وقال أبو علي{[19217]} : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب ، وكان ثقة بصيراً .

وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف .

وقال أبو جعفر : " صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله -عزَّ وجلَّ- على الشذوذ " .

وقال الزمخشري{[19218]} : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول : [ الرجز ]

قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ *** قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ{[19219]}

وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي ، فما بالها وقبلها ياء ؟ .

فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل .

قلت : هذا قياس حسنٌ ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات .

قال أبو حيان{[19220]} -رحمه الله تعالى- : " أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم ، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء " .

قال شهابُ الدِّين{[19221]} : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه ، وأول هذا الرجز :

أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ *** عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ{[19222]}

ثم قال أبوة حيان{[19223]} : " وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف ، فلا أعلم " حيث " يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف ، نحو : " قعد زيد حيث أمام عمرو بكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع " .

قال شهابُ الدين{[19224]} -رحمه الله- : " إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا ، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية " .

ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روي بسكون الياء بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراء ، نحو : { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] .

قال شهاب الدين{[19225]} : مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا ، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنه محل البحث ، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح ، وهو قوله : [ الطويل ]

عَليَّ لِعمْرو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ *** لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ{[19226]}

وقال الفراء{[19227]} في كتاب " المَعانِي " له : " وقد خفض الياء من " مصرخي " الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش ، ولعلها من وهم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنَّ الياء في { بِمُصْرِخِيَّ } خافضة للفظ كله ، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك ؟ قال : ومما [ نرى ]{[19228]} أنهم وهموا فيه قوله { نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [ النساء : 115 ] بالجزم في الهاء " ، ثمَّ ذكر غير ذلك .

وقال أبو عبيدٍ : أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً ؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها ، وقد كان في القراء من يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله ، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها .

وقال الأخفش{[19229]} : " ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين " .

قال النحاس{[19230]} : فصار هذا إجماعاً ، ولا يجوز ، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب .

وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال{[19231]} في حجَّته : " وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر ، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في " أكْرَمْتُكَ " وهذا لك ، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في " هذا لهو ، وضربهو " ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من قال : " أعْطَاكهُ " و " أعْطَيْتكَهُ " فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء ، ولحقت الياء الزيادة في قول الشاعر : [ الهزج ]

رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ *** ومَا أخْطَأتِ [ في ] الرَّميَه{[19232]}

كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد ، فقالوا : فيِّ ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . لَهْ أرِقَانِ{[19233]}

وزعم أبو الحسن : أنَّها لغة " . ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله : " له أرِقَانِ " حذف الصلة ، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركة ولو مثل بنحو " عَليْهِ " و " فِيهِ " لكان أولى .

ثمَّ قال الفارسي{[19234]} : كما حذفت الزيادة من الكاف فقيل : أعطيتكه ، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها ، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ .

قال : فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ ، وإن كان من غيرها أفشى منها ، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز .

لقائل أن يقول : إنَّ القراءة بذلك لحن ، [ لاستقامة ]{[19235]} ذلك في السَّماع والقياس ، وما كان كذلك لا يكون لحناً ، وهذا [ التوجيه ] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره ، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً .

قال الزجاج{[19236]} : " أجاز الفراء{[19237]} على وجه ضعيف الكسر ؛ لأن أصل التقاء الساكنين الكسر " .

قال الفراء : " ألا ترى أنهم يقولون : مذُ اليوم ، ومُذِ اليوم ، والرفع في الذال هو الوجه ؛ لأنه أصل حركة " مُذْ " والخفض جائز ، فكذلك الياء من " مُصرخِيِّ " خفضت ولها أصل في النصب " .

قال شهاب الدين{[19238]} : تشبيه الفراء المسألة ب " مُذُ اليَوْم " فيه نظر ؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر ، بخلاف ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم : فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح ، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [ نقل ]{[19239]} بعضهم عنه ، التخطئة مرة [ والتصويب ]{[19240]} أخرى ، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال ، وهي مختلفة التوجيه .

الثالث : أن الكسر للإتباع لما بعدها ، وهو كسر الهمزة من " إنِّي " كقراءة " الحَمْدِ للهِ " وكقولهم : بِعِير وشِعِير ، وشِهِيد ، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا .

التوجيه الرابع : أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء ، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام ، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت ، وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد ، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح .

والمُصْرِخ : المُغِيثُ : يقال : استصرختُه فأصرخني ، أي : فأغَاثِني فكأن همزه للسكت ، أي : زَالَ صُراخِي . والصَّارخُ : هو المُسْتَغِيثُ ، قال : [ الطويل ]

فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ *** ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر{[19241]}

ويقال : صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة ؛ قال : [ البسيط ]

كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ *** كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ{[19242]}

يريد : كان [ الصراخ ]{[19243]} ، فحذف المضاف ، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي ، نحو { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .

والصَّريخُ : القومُ المُسْتَرخُونَ ، قال : [ الكامل ]

قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ *** مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ{[19244]}

والصَّريخُ : أيضاً : المعينون ، فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أن يكون [ وصفاً ]{[19245]} على " فَعِيل " كالخليطِ ، وأن يكو مصدراً في الأصل ، قال " فَلا صَريخَ لَهُمْ " ، فهذا يحتمل ، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ .

قوله : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } يجوز في " ما " وجهان :

[ أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان : ]{[19246]}

أحدهما : أنه الأصنام ، تقديره : بالصَّنم الذي أشركتموني به ، أي : بالصنم الذي أطعتموني كما أطعتموه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائد محذوف ، فقدره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حذف يعني بعد حذف الجار ، ووصول الفعل إليه ، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء ؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد ، نحو : شركتُ زيداً ، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً ، هو العائد ، تقول : أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً ، أي جعلتهُ شريكاً له .

الثاني : أنه الباري -تعالى- ، أي : بما أشركتموني به ، أي : بالله تعالى .

قال القرطبي{[19247]} : المعنى : أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، أي : أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه ، وتكون " مَا " بمعنى " مَنْ " والكلام في العائد كما تقدَّم ، إلا أن فيه إيقاع " مَا " على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل .

قال الزمخشري{[19248]} : " ونحو " مَا " هذه " مَا " في قوله : " سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا " ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان " .

قال أبو حيان{[19249]} : " ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح ، كما جعل " برَّة " علماً للمبرة ، و " ما " مصدرية ظرفية " ، أي : فيكون على حذف مضاف أي : سبحان صاحب تسخيركن ؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله -عزَّ وجلَّ- .

الوجه الثاني : أن " ما " مصدرية ، أي : بإشراككم إياي مع الله ، لي الطاعة .

قوله " مِنْ قَبْلُ " متعلق ب " كَفرْتُ " على القول الأوَّل ؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله -سبحانه وتعالى- ، وب " أشْرَكْتُ " على الثاني ، أي : كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ، هذا قول الزمخشري -رحمه الله- .

وجوَّز أبو البقاء تعلقه ب " كَفرْتُ " وب " أشْرَكْتمُونِي " من غير ترتيب على كون : " مَا " مصدرية أو موصولة .

فقال : و " مِنْ قَبْلُ " متعلق ب " أشْرَكْتمُونِي " ، أي : كفرت الآن بما أشركتموني من قبل .

وقيل : هي متعلقة ب " كَفرْتُ " أي : كفرت من قبل إشراككم ، فلا أنفعكم شيئاً .

وقرأ أبو عمرو{[19250]} بإثبات الياء في " أشْرَكْتمُونِي " وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهنا تم كلام الشيطان .

وقوله { إِنَّ الظالمين } من كلام الله -تعالى- ، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان .

و " عَذابٌ " يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر ، وعلى الابتداء وخبره الجار .


[19208]:في ب: طلب.
[19209]:ينظر البحر المحيط 5/408 والدر المصون 4/261.
[19210]:ينظر: الفخر الرازي 19/88.
[19211]:في أ: الأعلى.
[19212]:ينظر: السبعة 362 والحجة 5/28 وإعراب القراءات السبع 1/335 وحجة القراءات 377 والإتحاف 2/167، 168 وقرأ بها أيضا الأعمش وابن وثاب ينظر: المحرر الوجيز 3/334 والبحر المحيط 5/408 والدر المصون 4/261.
[19213]:في ب: فذهبت.
[19214]:في أ: واستشعر.
[19215]:تقدم.
[19216]:البيت للأغلب العجلي. ينظر: إبراز المعاني (550)، معاني الفراء 2/76، الألوسي 13/210 حاشية يس 2/60، معاني الزجاج 3/159 ، الخزانة 2/257، 258، مشكل إعراب القرآن 1/404، المحتسب 2/49، رسالة الغفران 456، إعراب النحاس 2/369، الكشاف 2/374، الدر اللقيط 5/419، الكشف 2/26، الدر المصون 4/262.
[19217]:ينظر: الحجة 5/29.
[19218]:ينظر: الكشاف 2/551.
[19219]:تقدم.
[19220]:ينظر: البحر المحيط 5/409.
[19221]:ينظر: الدر المصون 4/262.
[19222]:البيت للأغلب العجلي. ينظر: الخزانة 4/431، حاشية يس 2/60، إبراز المعاني /551، الدر المصون 4/263.
[19223]:ينظر: البحر المحيط 5/409.
[19224]:ينظر: الدر المصون 4/263.
[19225]:ينظر: الدر المصون 4/263.
[19226]:ينظر: ديوانه (9)، المحتسب 2/49، أمالي ابن الشجري 2/180، الهمع 2/53، الدرر 2/68، الألوسي 13/210، الخزانة 2/360، شرح الكافية الشافية (1008).
[19227]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/75.
[19228]:في ب: يؤكد.
[19229]:ينظر: معاني القرآن للأخفش 2/375.
[19230]:ينظر: إعراب القرآن 2/183.
[19231]:ينظر: الحجة 5/29.
[19232]:ينظر: الخزانة 5/268، إبراز المعاني (551) ، القوافي للمبرد ص 7، القوافي للتنوخي ص 80، مشكل إعراب القرآن 1/403، شرح الحور العين ص 95، تفسير القرطبي 3/311، شرح الكافية للرضي 2/22، الدر المصون 4/263.
[19233]:تقدم.
[19234]:ينظر: الحجة 5/29.
[19235]:في ب: لاستيعاب.
[19236]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 3/159.
[19237]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/75.
[19238]:ينظر: الدر المصون 4/264.
[19239]:في ب: التوضيح.
[19240]:في أ: تعليل.
[19241]:البيت لأمية بن أبي الصلت: ينظر: البحر المحيط 5/404، القرطبي 9/357، الدر المصون 4/264.
[19242]:البيت لسلامة بن جندل. ينظر: الديوان (15) التهذيب (طنب) القرطبي 5/391، اللسان والتاج (فزع)، الكامل 1/3، الدر المصون 4/264.
[19243]:في أ: الإصراخ.
[19244]:البيت لحميد بن ثور الهلالي، ينظر: الديوان /111، الكشاف 4/620، المغني 1/63، ديوان الحماسة 1/29، التصريح 3/107، الأشموني 3/107، الدر المصون 4/264.
[19245]:في ب: وضع.
[19246]:سقط من: أ.
[19247]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/235.
[19248]:ينظر: الكشاف 2/551.
[19249]:ينظر: البحر المحيط 5/409.
[19250]:قرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر الإتحاف 2/168.