فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } .
قوله : { وَعْدَ الحق } يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، كقوله تعالى : { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] ومسجد الجامع ، أي : الوعد الحق ، وأن يراد ب " الحقِّ " صفة الباري -تعالى- ، أي : وعدكم الله وعده الحق ، وأن يراد ب " الحَقِّ " البعث ، والجزاء على الأعمال ، فتكون إضافة صريحة .
وقيل : وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً ، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين :
الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد ؛ لأنهم شاهدوه .
والثاني : قوله : ووعدتكم فأخلفتكم الوعد ، يقتضي مفعولاً ثانياً ، وحذف للعلم به تقديره : ووعدتكم أن لا جنّة ، ولا نار ، ولا حشر ، ولا حساب .
لما [ ذكر ]{[19208]} الله -سبحانه وتعالى- المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } قال المفسرون : إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة ، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، فيقوم فيما بينهم خطيباً ، فيقول : " إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ " .
وقيل : المراد من قوله تعالى : { لَمَّا قُضِيَ الأمر } أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله ! .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تَحِيَّتُهم إلاَّ الضرب .
والثاني : أنه متصل ؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلُّط .
وقرئ{[19209]} " فَلا يَلُومُونِي " بالياء من تحت الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام .
ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله ؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليَّ ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ .
قالت المعتزلة{[19210]} : هذه الآية تدل على أشياء :
أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله -تعالى- لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله -تعالى- قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه .
والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله .
والثالث : يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم .
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به .
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبينه الله -تعالى- وأظهر إنكاره ، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد .
ألا ترى أن قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كلام حق ، وقوله { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } قول حق بدليل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] .
قال ابن الخطيب -رحمه الله- : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [ الأصلي ] {[19211]} هو النفس ؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة ، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس .
فإن قيل : لِمَ قال الشيطان : " فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ " وهو ملوم بسبب وسوسته ؟ .
فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم : " ولوموا أنفسكم " عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله -تعالى- لكم .
قوله تعالى : { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } العامَّة على فتح الياءِ ؛ لأن ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً ، لاسيما وقبلها كسرتان .
وقرأ حمزة بكسرها{[19212]} ، وهي لغة بني يربوع ، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضطراباً شديداً ، فمن مجترئ عليها ، ملحن لقارئها ، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع ، والأصل : بمُصرخينَ لي [ فحذفت ]{[19213]} النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، ومن مجوِّز لها بضعف .
قال حسين الجعفيُّ -رحمه الله- : سألت أبا عمرو عن كسر الياء ؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم .
ومنها : سألت أبا عمرو ، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها ، فقال : هي جائزة أيضا ، إنما أراد تحريك الياء ، فلست تبالي إذا حركتها إلى أسفل أم إلى فوق . وعنه : من شاء فتح ، ومن شاء كسر .
ومنها : أنه قال : إنها بالخفض حسنة ، وعنه قال : قدم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألته هن القرآن ، فوجدته به عالما ، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش ، [ واستقر ]{[19214]} به : { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجر ، فقال : هي جائزة ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة ، ولا التفات إليه ؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن ، واللغة ، والنحو ، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني : [ البسيط ]
وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ *** لمْ يَسْتطِعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَناعِيسِ{[19215]}
ثم ذكر العلماء في ذلك التوجيهات :
منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين ، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون ، فلما التقيا كسرت ؛ لالتقاء الساكنين .
الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و " هاء " الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة ، وبياء إذا كانت مكسورة ، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة ؛ فتكسر كما تكسر الهاء في : " عَليْهِ " ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو " عليهي " بياء ، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة ، إذ أصله يقتضي عدمها .
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع .
قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء ؛ وأنشد : [ الرجز ]
مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ *** قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ{[19216]}
وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً ، فهو مما يلتقي من السكانين فنخفض الآخر منها .
وقال أبو علي{[19217]} : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب ، وكان ثقة بصيراً .
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف .
وقال أبو جعفر : " صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله -عزَّ وجلَّ- على الشذوذ " .
وقال الزمخشري{[19218]} : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول : [ الرجز ]
قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ *** قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ{[19219]}
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي ، فما بالها وقبلها ياء ؟ .
فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل .
قلت : هذا قياس حسنٌ ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات .
قال أبو حيان{[19220]} -رحمه الله تعالى- : " أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم ، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء " .
قال شهابُ الدِّين{[19221]} : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه ، وأول هذا الرجز :
أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ *** عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ{[19222]}
ثم قال أبوة حيان{[19223]} : " وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف ، فلا أعلم " حيث " يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف ، نحو : " قعد زيد حيث أمام عمرو بكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع " .
قال شهابُ الدين{[19224]} -رحمه الله- : " إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا ، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية " .
ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روي بسكون الياء بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراء ، نحو : { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] .
قال شهاب الدين{[19225]} : مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا ، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنه محل البحث ، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح ، وهو قوله : [ الطويل ]
عَليَّ لِعمْرو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ *** لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ{[19226]}
وقال الفراء{[19227]} في كتاب " المَعانِي " له : " وقد خفض الياء من " مصرخي " الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش ، ولعلها من وهم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنَّ الياء في { بِمُصْرِخِيَّ } خافضة للفظ كله ، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك ؟ قال : ومما [ نرى ]{[19228]} أنهم وهموا فيه قوله { نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [ النساء : 115 ] بالجزم في الهاء " ، ثمَّ ذكر غير ذلك .
وقال أبو عبيدٍ : أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً ؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها ، وقد كان في القراء من يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله ، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها .
وقال الأخفش{[19229]} : " ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين " .
قال النحاس{[19230]} : فصار هذا إجماعاً ، ولا يجوز ، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب .
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال{[19231]} في حجَّته : " وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر ، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في " أكْرَمْتُكَ " وهذا لك ، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في " هذا لهو ، وضربهو " ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من قال : " أعْطَاكهُ " و " أعْطَيْتكَهُ " فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء ، ولحقت الياء الزيادة في قول الشاعر : [ الهزج ]
رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ *** ومَا أخْطَأتِ [ في ] الرَّميَه{[19232]}
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد ، فقالوا : فيِّ ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . لَهْ أرِقَانِ{[19233]}
وزعم أبو الحسن : أنَّها لغة " . ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله : " له أرِقَانِ " حذف الصلة ، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركة ولو مثل بنحو " عَليْهِ " و " فِيهِ " لكان أولى .
ثمَّ قال الفارسي{[19234]} : كما حذفت الزيادة من الكاف فقيل : أعطيتكه ، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها ، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ .
قال : فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ ، وإن كان من غيرها أفشى منها ، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز .
لقائل أن يقول : إنَّ القراءة بذلك لحن ، [ لاستقامة ]{[19235]} ذلك في السَّماع والقياس ، وما كان كذلك لا يكون لحناً ، وهذا [ التوجيه ] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره ، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً .
قال الزجاج{[19236]} : " أجاز الفراء{[19237]} على وجه ضعيف الكسر ؛ لأن أصل التقاء الساكنين الكسر " .
قال الفراء : " ألا ترى أنهم يقولون : مذُ اليوم ، ومُذِ اليوم ، والرفع في الذال هو الوجه ؛ لأنه أصل حركة " مُذْ " والخفض جائز ، فكذلك الياء من " مُصرخِيِّ " خفضت ولها أصل في النصب " .
قال شهاب الدين{[19238]} : تشبيه الفراء المسألة ب " مُذُ اليَوْم " فيه نظر ؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر ، بخلاف ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم : فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح ، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [ نقل ]{[19239]} بعضهم عنه ، التخطئة مرة [ والتصويب ]{[19240]} أخرى ، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال ، وهي مختلفة التوجيه .
الثالث : أن الكسر للإتباع لما بعدها ، وهو كسر الهمزة من " إنِّي " كقراءة " الحَمْدِ للهِ " وكقولهم : بِعِير وشِعِير ، وشِهِيد ، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء ، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام ، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت ، وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد ، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح .
والمُصْرِخ : المُغِيثُ : يقال : استصرختُه فأصرخني ، أي : فأغَاثِني فكأن همزه للسكت ، أي : زَالَ صُراخِي . والصَّارخُ : هو المُسْتَغِيثُ ، قال : [ الطويل ]
فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ *** ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر{[19241]}
ويقال : صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة ؛ قال : [ البسيط ]
كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ *** كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ{[19242]}
يريد : كان [ الصراخ ]{[19243]} ، فحذف المضاف ، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي ، نحو { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريخُ : القومُ المُسْتَرخُونَ ، قال : [ الكامل ]
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ *** مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ{[19244]}
والصَّريخُ : أيضاً : المعينون ، فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أن يكون [ وصفاً ]{[19245]} على " فَعِيل " كالخليطِ ، وأن يكو مصدراً في الأصل ، قال " فَلا صَريخَ لَهُمْ " ، فهذا يحتمل ، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } يجوز في " ما " وجهان :
[ أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان : ]{[19246]}
أحدهما : أنه الأصنام ، تقديره : بالصَّنم الذي أشركتموني به ، أي : بالصنم الذي أطعتموني كما أطعتموه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائد محذوف ، فقدره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حذف يعني بعد حذف الجار ، ووصول الفعل إليه ، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء ؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد ، نحو : شركتُ زيداً ، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً ، هو العائد ، تقول : أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً ، أي جعلتهُ شريكاً له .
الثاني : أنه الباري -تعالى- ، أي : بما أشركتموني به ، أي : بالله تعالى .
قال القرطبي{[19247]} : المعنى : أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، أي : أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه ، وتكون " مَا " بمعنى " مَنْ " والكلام في العائد كما تقدَّم ، إلا أن فيه إيقاع " مَا " على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل .
قال الزمخشري{[19248]} : " ونحو " مَا " هذه " مَا " في قوله : " سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا " ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان " .
قال أبو حيان{[19249]} : " ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح ، كما جعل " برَّة " علماً للمبرة ، و " ما " مصدرية ظرفية " ، أي : فيكون على حذف مضاف أي : سبحان صاحب تسخيركن ؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله -عزَّ وجلَّ- .
الوجه الثاني : أن " ما " مصدرية ، أي : بإشراككم إياي مع الله ، لي الطاعة .
قوله " مِنْ قَبْلُ " متعلق ب " كَفرْتُ " على القول الأوَّل ؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله -سبحانه وتعالى- ، وب " أشْرَكْتُ " على الثاني ، أي : كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ، هذا قول الزمخشري -رحمه الله- .
وجوَّز أبو البقاء تعلقه ب " كَفرْتُ " وب " أشْرَكْتمُونِي " من غير ترتيب على كون : " مَا " مصدرية أو موصولة .
فقال : و " مِنْ قَبْلُ " متعلق ب " أشْرَكْتمُونِي " ، أي : كفرت الآن بما أشركتموني من قبل .
وقيل : هي متعلقة ب " كَفرْتُ " أي : كفرت من قبل إشراككم ، فلا أنفعكم شيئاً .
وقرأ أبو عمرو{[19250]} بإثبات الياء في " أشْرَكْتمُونِي " وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهنا تم كلام الشيطان .
وقوله { إِنَّ الظالمين } من كلام الله -تعالى- ، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان .
و " عَذابٌ " يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر ، وعلى الابتداء وخبره الجار .