قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة ، وذلك هو الخسران الشديد .
وفي ارتفاع : " مَثَلُ " أوجه :
أحدها : وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم ، وتكون الجملة من قوله : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم ؟ فقيل : كَيْتَ وكَيْتَ " والمثل : مستعار للصفة التي فيها غرابة ، كقوله : صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ ، مالهُ مَبْذولٍ " .
الثاني : أن يكون " مثل " مبتدأ ، و " أعمالهم " مبتدأ ثان ، و " كَرمَادٍ " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل .
قال ابن عطيَّة : " وهذا عندي أرجحُ الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة " وإليه نحا الحوفي .
قال أبو حيان{[19188]} : " وهو لا يجوز ؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى عن رابط " .
قال شهابُ الدِّين{[19189]} -رحمه الله- : " بل الجملة نفس المبتدأ ، فإن نفس مثلهم هو " أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ " في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً ، ولا يبقى له أثر ، فهو نظير قولك : " هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ " وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً ؛ فإنه قال : " أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك : " صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول " فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد " .
الثالث : أنَّ " مَثَلُ " زائدة ، قاله الكسائي والفراء ، أي : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، ف " الَّذينَ " مبتدأ ، و " أعْمالهُمْ " مبتدأ ثان و " كَرَمادٍ " خبره ، وزيادة الأسماء ممنوعة .
الرابع : أن يكون " مثلُ " مبتدأ ، و " أعْمَالهُم " بدل منه على تقدير : مثل أعمالهم و " كَرمَادٍ " الخبر ، قاله الزمخشري . وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم .
الخامس : أنه يكون " مثل " مبتدأ ، و " أعمالهم " بدلٌ منه بدل اشتمال و " كرماد " الخبر . كقول الزباءِ : [ الرجز ]
مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا *** أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا{[19190]}
السادس : أن يكون التقدير : مثل أعمال الذين كفروا ، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ ، قال الزمخشريُّ{[19191]} .
السابع : أن يكون " مَثَلُ " مبتدأ ، و " أعْمَالهُم " خبره ، أي : مثل أعمالهم فحذف المضاف ، و " كَرمَادٍ " على هذا خبر مبتدأ محذوف .
وقال أبو البقاءِ{[19192]} حين ذكر وجه البدل : " ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال " أعْمالهُمْ " من : " الَّذينَ " ، وهو بدل اشتمال " .
يعنى أنَّه كان يقرأ " أعْمَالهُمْ " مجرورة لكنَّه لم يقرأ به .
" والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام ، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة ، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ " .
والرَّمادُ : الشبه المحكم ، يقال : أرْمدَ الماءُ ، أي : صار بلونِ الرَّمادِ .
والأرْمَدُ : مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ ، وقيل للبعوض : رمدٌ لذلك ، ويقال : رمادٌ رَمْددٌ ، أي : صار هباء .
قوله تعالى : { اشتدت بِهِ الريح } في محل جر صفة ل " رَمَادٍ " ، و " فِي يَوْمٍ " متعلق ب " اشْتَدَّتْ " : وفي " عَاصِفٍ " أوجه :
أحدها : أنه على تقرير : عاصف ريحه ، أو عاصف الريح ، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل " يَوْم " مجازاً ، كقولهم : يَومٌ ماطرٌ ، وليْلٌ قَائمٌ .
قال الهرويُّ : فحذفت لتقدم ذكرها ، كما قال : [ الطويل ]
إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19193]}
الثاني : أنه عائد على النِّسب ، أي : ذي عصوف ، كلابن وتامر .
الثالث : أنه خفض على الجوار ، أي : كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب ، فيقال : اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه ، كقولهم : " جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ " .
وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر ؛ لأنَّ من شرطه أن يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كالمثال المذكور ، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً ، وتنكيراً في هذا [ التركيب ]{[19194]} الخاص .
وقرأ الحسن{[19195]} وابن أبي إسحاق : [ " يَوْمٍ عَاصفٍ " ]{[19196]} وهي على حذف الموصوف ، أي : في يوم ريح عاصف ، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك .
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو : " البَقْلةُ الحَمْقَاء " . ويقال : ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصله من العصف ، وهو ما يكبر من الزرع ، فقيل ذلك للريح الشديد ؛ لأنَّها تعصف ، أي : تسكر ما تمرُّ به
قوله : " لاَ يَقدِرُونَ " مستأنف ، ويضعف أن يكون صفة ل " يَوْمٍ " : على حذف العائدِ أي : لا يقدرون فيه ، و " ممَّا كَسبُوا " متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من " شَيءٍ " إذ لو تأخر لكان صفة ، والتقدير : على شيء مما كسبوا .
وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم : هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ . واختلفوا في المراد بتلك الأعمال ، فقيل : ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وإطعام الجائع ، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها .
وقيل : المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام ، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم ، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها ، فصارت وبالاً عليهم .
وقيل : المراد من أعمالهم كلا القسمين ؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت ، والأعمال التي اعتقدوها خيراً ، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً ، وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم ، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال : { هُوَ الضلال البعيد } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.