اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنَٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِيمٗا} (40)

قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : ألفُ " أصْفَى " عن واوٍ ؛ لأنه من " صَفَا يَصْفُو " وهو استفهام إنكارٍ وتوبيخٍ .

ويقال : أصفاهُ بالشَّيء ، إذا آثرهُ به ، ويقال للضِّياعِ التي يستخصُّها السلطان لخاصَّته الصَّوافِي .

قال أبو عبيدة - رحمه الله - في قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : أفخصّكم وقال المفضل : أخلصكم .

قال النحويون : هذه الهمزة همزة تدلُّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهر الفساد ، لا جواب لصاحبه ، إلاَّ بما فيه أعظمُ الفضيحةِ .

واعلم أنَّه تعالى ، لما نبَّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ، أتبعه بفسادِ طريقة من أثبت الولد لله تعالى ، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنَّ الولد على قسمين ، فأشرف القسمين : البنون ، وأخسُّها : البنات ، ثمَّ إنَّهم أثبتوا البنين لأنفسهم ، مع علمهم بنهاية عجزهم ، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنَّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، وذلك يدلُّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول ؛ ونظيره قوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } [ الطور : 39 ] وقوله جلَّ ذكرهُ : { وَلَهُ الأنثى } [ النجم : 21 ] .

ومعنى الآية أنه اختاركم ، فجعل لكم الصَّفوة ، ولنفسه ما ليس بصفوة ، يعني اختاركم { بالبنين واتخذ مِنَ الملاائكة إِنَاثاً } ؛ لأنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الملائكة بنات الله تعالى .

قوله تعالى : " واتَّخَذَ " يجوز أن يكون معطوفاً على " أَصْفَاكُمْ " فيكون داخلا في حيز الإنكار ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، و " قَدْ " مقدرة عند قوم .

و " اتَّخَذَ " يجوز أن تكون المتعدية لاثنين ، فقال أبو البقاء{[20439]} : " إنَّ ثانيهما محذوف ، أي : أولاداً ، والمفعول الأوَّلُ هو إناثاً " وهذا ليس بشيءٍ ، بل المفعول الثاني هو " مِنَ المَلائكةِ " قدِّم على الأوَّل ، ولولا ذلك لزم أن يبتدأ بالنَّكرةِ من غير مسوغٍ ؛ لأنَّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولاً أوَّل في هذا الباب ، وما لا ، فلا ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، كقوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، و " مِنَ الملائكة " متعلق ب " اتَّخذ " أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النَّكرة بعده .

ثم قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } وهذا خطابٌ لمشركي " مَكَّة " وبيان كون هذا القول عظيماً : أنَّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركَّباً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجوب لذاته ، وذلك عظيم من القول ، وأيضاً : فبتقدير ثبوت الولد ، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم ، وأخسَّ القسمين لله تعالى ، وهذا جهلٌ عظيمٌ .


[20439]:ينظر: الإملاء 2/92.