اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

قوله تعالى : { تُسَبِّحُ } قرأ{[20447]} أبو عمرو والأخوان ، وحفص " تُسَبِّحُ " بالتاء ، والباقون بالياء من تحت ، وهما واضحتان ؛ لأن التأنيث مجازي ، ولوجود الفصل أيضاً بين الفعل والتأنيث .

وقال ابن عطيَّة : " ثم أعاد على السَّموات والأرض ضمير من يعقل ، لمَّا أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح " وهذا بناءً على أنَّ " هُنَّ " مختصٌّ بالعاقلات ، وليس كما زعم ، وهذا نظيرُ اعتذاره عن الإشارة ب أولئك " في قوله " كُلُّ أولئكَ " وقد تقدَّم . وقرأ{[20448]} عبد الله والأعمش " سَبَّحَتْ " ماضياً بتاء التأنيث .

فصل

قال ابن عطيَّة : يقال : فَقِهَ ، وفَقَهَ ، وفَقُهُ ؛ بكسر القاف ، وفتحها ، وضمها ، فالكسر إذا فهم ، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم ، وبالضمِّ إذا صار الفقه له سجيَّة ، فيكون على وزن " فَعُلَ " بالضَّم ؛ لأنَّه شأنُ أفعال السجايا الماضية نحو : ظَرُفَ فهو ظريفٌ ، وشرُف فهو شريفٌ ، وكرُم فهو كريم ، واسم الفاعل من الأوليين فاعل ؛ نحو : سَمِعَ ، فهو سَامعٌ ، وغلب فهو غالبٌ ، ومن الثالث : فعيلٌ ؛ فلذلك تقول فَقُهَ فهو فَقِيهٌ .

فصل

روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : وإن من شيء حيٍّ إلا يُسبح بحمدهِ{[20449]}

وقال قتادة - رضي الله عنه - يعني الحيوانات والنَّاميات{[20450]} .

وقال عكرمةُ : الشجرة تسبِّح ، والأسطوانة تسبِّح{[20451]} .

وعن المقدام بن معدي كرب ، قال : " إنَّ التُّرابَ يُسَبِّح مَا لمْ يبْتَلَّ ، فإذا ابتلَّ ترك التَّسبيحَ ، وإنَّ الخرزة تُسَبِّحُ ، مَا لَمْ تُرفَعْ من موضعها ، فإذا رفعتْ تركت التَّسبيح ، وإنَّ الورقة تُسبِّح ما دامت على الشَّجرة ، فإذا سقطت ، تركت التَّسبيح ، وإنَّ الماء يسبِّح ما دام جارياً ، فإذا أركد ، ترك التَّسبيح ، وإنَّ الثوب يسبِّح ما دام جديداً ، فإذا وسخ ، ترك التسبيح ، وإن الطير والوحش تسبِّح ، إذا صاحتْ ، فإذا سكنت ، تركت التَّسبيح{[20452]} .

وقال إبراهيم النخعيُّ : وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده ، حتَّى صرير الباب ، ونقيض السقف{[20453]} .

وقال مجاهدٌ : كل الأشياء تسبِّح لله ، حيًّا كان أو ميتاً ، أو جماداً ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده{[20454]} .

قال أهلُ المعاني : تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول ، كقول اللسان : سبحان الله ، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم ، ومن لا يكون حيًّا ، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها ، وعجيب هيئتها على خالقها ؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم ، والعلم ، والإدراك ، والنُّطق ، وكل ذلك في الجمادات محالٌ .

قالوا : فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً ، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا ، وحينئذٍ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا ، وذلك كفر ؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، وذلك كفر ؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا ، وذلك جهلٌ وكفر ، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً .

واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية ، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ؛ لأنَّه تعالى قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه .

فأجاب أهل المعاني بوجوه :

أولها : أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة ، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة ، لا تتجزَّأ ، وكلُّ واحدٍ من تلك الأجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله ، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع ، والطَّعم ، واللَّون ، و الرائحة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات ، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم .

إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله ، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله ، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلومٍ ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا قال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .

وثانيها : أن الكفَّار ، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ ، كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .

فكان المراد من قوله : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } هذا المعنى .

وثالثها : أنَّ القوم ، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم ، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر ، فكان المراد ذلك .

ورابعها : قوله لمحمدٍ : " قُلْ " لهم : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل ، فلما قال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } بصحَّة هذا الدليل وقوَّته ، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ، ولا تعرفونه ، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد ، فقال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح ، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم ، وهذا إنما يكن جرماً ، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ، ما عرفوا وجه تلك الدلائل ، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها ، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً ، ولا ذنباً ، وإذا لم يكن جرماً ، ولا ذنباً ، لم يكن قوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } لائقاً بهذا الموضع .

واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها ، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح ، وقالوا : إنَّها إذا ذبحتْ لم تسبِّح ، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح ، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح ؟ ! .

وقالوا : إن عصا الشَّجرة إذا كسرت ، لم تسبِّح ، وإذا كان كونه جماداً ، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر ؟ وهذه كلمات ضعيفة .

فصل في تسبيح السماوات والأرض

دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى ، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلاَّ بمعنى تنزيه الله ، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول : " سُبحَانَ الله " ، وهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله " تُسبِّحُ " لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم ؛ لئلاَّ يلزم هذا المحذورُ .


[20447]:ينظر: السبعة 381، والنشر 2/307، والإتحاف 2/199، والحجة 405، والحجة للفارسي 5/106، والبحر 6/38، والدر المصون 4/394.
[20448]:ينظر: البحر 6/38، والدر المصون 6/394، والإتحاف 2/199 منسوبة إلى المطوعي.
[20449]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/116).
[20450]:ينظر: المصدر السابق.
[20451]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/85) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 332 ـ 333). وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[20452]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/117).
[20453]:ينظر: المصدر السابق.
[20454]:ينظر: المصدر السابق.