اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا} (39)

قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } : [ مبتدأ أو خبر ] ، اعلم أن قوله " ذلك " إشارةٌ إلى ما تقدَّم من التكاليف ، وهي خمسةٌ وعشرون نوعاً ، أولها قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الإسراء : 22 ] .

وقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .

وهذا مشتملٌ على تكليفين :

الأمر بعبادةِ الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع [ ثلاثة ] .

والرابع : قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] وقوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُل رَّبِّ ارحمهما } [ الإسراء : 23 ، 24 ] { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] وقوله : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا } [ الإسراء : 29 ] { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ } [ الإسراء : 31 ] { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس } [ الإسراء : 33 ] { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] وقوله : { وَأَوْفُوا الكيل } [ الإسراء : 35 ] وقوله : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإسراء : 37 ] { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ } فهذه خمسةٌ وعشرون تكليفاً ، بعضها أوامر وبعضها نواهٍ ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات ، وجعل فاتحتها قوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وخاتمتها{[20437]} قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وإنَّما سمَّاها حكمة ؛ لوجوه :

الأول : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتَّوحيد ، وأنواع الطَّاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والعقول تدلُّ على صحَّتها ، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان ، بل الفطرة الأصليَّة تشهد بأنَّه يكون داعياً إلى دين الرَّحمن .

الثاني : أنَّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ، ولا تقبل النَّسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات .

الثالث : أنَّ الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحقِّ لذاته ، والخير لأجلِ العمل به ؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوَّل ، وسائر التكاليف عبارة عن تعلُّم الخيرات ؛ لأجل العمل بها .

روي عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - أنَّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى - صلوات الله عليه - أولها " لا تَجْعلْ مع الله إلهاً آخر " {[20438]} .

قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } [ الأعراف : 145 ] .

فكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه ، فهو حكمةٌ .

قوله تعالى : " مِنَ الحكمةِ " يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، تقديره : من الذي أوحاه حال كونه من الحكمة ، أو حال من نفس الموصول .

الثاني : أنه متعلق ب " أوْحَى " ، و " مِنْ " إمَّا تبعيضيةٌ ؛ لأنَّ ذلك بعض الحكمة ، وإمَّا للابتداء ، وإما للبيان .

وحينئذٍ تتعلق بمحذوفٍ .

الثالث : أنها مع مجرورها بدل من " ممَّا أوْحَى " .

فصل

ذكر في الآية أنَّ المشرك يكون مذموماً مخذولاً .

وذكر ها هنا أنَّ المشرك يلقى في جهنَّم ملوماً مدحوراً ، فاللَّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤهُ في جهنَّم يحصل يوم القيامة ، والفرقُ بين الملوم والمدحُور ، وبين المذموم والمخذول : أنَّ معنى كونه مذموماً : أن يذكر له أنَّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ ، وإذا ذكر له ذلك ، فعند ذلك يقال له : لم فعلت هذا الفعل ؟ وما الذي حملك عليه ؟ وما استفدت من هذا العمل ، إلاَّ إلحاق الضَّرر بنفسك ؟ وهذا هو اللَّوم .

وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنَّ المخذول هو الضعيف ، يقال : تخاذلت أعضاؤه ، أي : ضعفت ، والمدحور هو المطرود ، والطَّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته ، وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارةٌ عن إهانته ، فيصير أوَّل الأمر مخذولاً وآخره يصير مدحوراً .


[20437]:سقط من: أ.
[20438]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/330) وعزاه إلى الطبري.