اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا} (54)

قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } بينَّا { فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } .

اعلم أن الكفَّار ، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة ، وذكر المثلين المتقدِّمين ، ذكر بعده : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق ، والتصريف يقتضي التكرير ، والأمر كذلك ؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية ، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة ؛ فقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .

قوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } : يجوز أن تكون " مِنْ كلِّ " صفة لموصوف محذوف ، وهو مفعول " صرَّفنا " ، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ ، ويجوز أن تكون " مِنْ " مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين .

قوله : " جَدَلاً " منصوب على التمييز ، وقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي : أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ ، إن فصَّلتها واحداً واحداً ، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ ، فوضع " شيءٍ " موضع الأشياء ، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان ؛ إذ الأصل : وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء ؟ فيه نظر ، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه ؛ فإنه قال{[21170]} : " فيه وجهان :

أحدهما : أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل ، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له ، وتمييزه ب " جدلاً " يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً ، وهذا من وضع العام موضع الخاص .

والثاني : أن في الكلام محذوفاً ، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ ، ثم ميَّزه " . فقوله : " تقديره : وكان جدل الإنسان " يفيد أنَّ إسناد " كان " إلى الجدلِ جائز في الجملة ، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوَّز ، فتجعل للجدلِ جدلاً ؛ كقولهم : " شِعرٌ شَاعرٌ " يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ .

وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين ؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين .


[21170]:ينظر: الإملاء 2/105.