قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ } الآية : " إذْ " منصوب ب " اذْكُرْ " أو وقت قال لفتاه : جرى ما قصصنا عليك من خبره .
قال عامة أهل العلم : إنَّه موسى بن عمران . وقال بعضهم : إنَّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصحُّ ، لما روى عمرو بن دينارٍ ، قال : أخبرني سعيد بن جبيرٍ ، قال : قلت لابن عبَّاسٍ : إنَّ نوفاً البكاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عبَّاس : كذب عدوُّ الله ، حدَّثنا أبيّ بن كعبٍ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ موسى قَامَ خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئِلَ : أيُّ النَّاس أعلمُ ؟ فقال : أنَا ، فَعَتبَ الله عليه ؛ إذْ لم يردَّ العِلْمَ إليه ، فأوحَى إليه : إنَّ لِي عَبْداً بمَجْمَع البَحْرينِ ، هو أعلم منك ، فقال موسى : يا ربِّ ، فكيف لي به ؟ قال : تأخذُ معك حوتاً ، فتجعلهُ في مكتلٍ ، فحيثما فقدتَّ الحوت ، فهو ثمَّ ؛ فأخذ حوتاً ، فجعلهُ في مكتلٍ ، ثمَّ انطلق ، وانطلق معه فتاهُ يُوشعُ بن نونٍ ، حتَّى أتيا الصَّخرةَ ، ووضعَا رُءُوسَهُمَا ، فنَامَا ، واضطرب الحُوتُ في المكْتَلِ ، فخرج منهُ ، فسَقطَ في البَحْرِ ، فاتَّخذَ سَبيلهُ في البَحْرِ سَرَباً ، وأمْسَكَ الله عن الحُوت جَرية الماءِ ، فصَارَ عَليْهِ كالطَّاقِ ، فلمَّا اسْتيقظَ ، نَسِيَ صَاحبهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ ، فانْطلقَا بقيَّة يَوْمهِمَا وليْلتِهمَا ، حتَّى إذا كان من الغَداةِ ، قَالَ مُوسَى لفتاهُ : آتِنَا غَداءَنَا ، لقَدْ لقينا من سَفرنَا هذا نصباً ، قال : ولمْ يَجِدْ مُوسى النَّصب ، حتَّى جَاوزَ المكان الذي أمرهُ الله تعالى ، فقال له فتاهُ : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخرةِ ، فإنِّي نَسيتُ الحُوتَ ومَا أنْسانيه إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذكرهُ ، واتَّخذَ سبيلهُ في البحر عجباً ، قال : وكَانَ للحُوتِ سرباً ولمُوسَى وفتاهُ عجباً ، قال موسى : ذلكَ ما كُنَّا نبغي فَارتدّا على آثارهما قصصاً ، رجعا يقُصَّانِ آثارهما ، حتى [ انتهيا ]{[21187]} إلى الصَّخرة ، فإذا رجلٌ مُسَجَّى ثوباً ، فسلَّم عليه مُوسى ، فقال الخَضِرُ : وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ ؟ فقال : أنَا مُوسَى ، قال : مُوسى بني إسرائيل ؟ قال : نَعمْ ، أتَيْتُك ، لتُعَلِّمَنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً [ وذكر باقي ]{[21188]} القصة " {[21189]} .
واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان : أفرائيم وميشا ، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون ، وهو فتى موسى ، ووليُّ عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا ، فقيل : إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران ، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه ، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا قول جمهور اليهود .
واحتجَّ القفال{[21190]} على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة ، قال : إنَّ الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان المرادِ شخصاً آخر يسمَّى موسى غيره ، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ أبا حنيفة هو الرجل المفتي ، فلو ذكرنا هذا الاسم ، وأردنا به غيره ، لقيَّدناهُ ، كما نقول : أبو حنيفة الدِّينوريُّ .
فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا
واحتج القائلون بأنَّه موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة ، وكلَّمه بلا واسطة ، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة .
[ فالجواب ]{[21191]} عنه : بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء ؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه ، وهو أمرٌ متعارفٌ .
واختلفوا في فتى موسى ، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم ، وقيل : كان أخا يوشع .
وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى .
قال القفَّال والكعبي : يحتمل ذلك .
قال - عليه الصلاة والسلام- : " لا يقُولنَّ أحَدُكمْ : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : فَتَايَ وفَتَاتِي " {[21192]} .
وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى ، والأمة فتاةً .
قوله : " لا أبْرَحُ " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة ، فتحتاج إلى خبر .
والثاني : أن تكون تامة ، فلا تحتاج إليه ، فإن كانت الناقصة ، ففيها تخريجان :
أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً ؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسيرُ حتَّى أبلغ ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة ؛ كقوله : [ الكامل ]
لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ *** يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ{[21193]}
أي : حين ليس في الدنيا مجيرٌ .
والثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ ، ثم حذف " مسير " وأقيمت الياء مقامه ، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة ، وبقي " حتَّى أبلغ " على حاله هو الخبر .
وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين ، فجعلهما وجهاً واحداً ، ولكن في عبارة حسنة جدًّا ، فقال : " فإن قلت : " لا أبْرَحُ " إن كان بمعنى " لا أزولُ " من برح المكان ، فقد دلَّ على الإقامةِ ، لا على السَّفر ، وإن كان بمعنى " لا أزَالُ " فلا بدَّ من خبر ، قلت : هي بمعنى " لا أزَالُ " وقد حذف الخبر ؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه ؛ أمَّا الحال ، فلأنها كانت حال سفرٍ ، وأمَّا الكلام ، فلأن قوله " حتَّى أبلغ " غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلابدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ على أنَّ " حتَّى أبلغَ " هو الخبر ، فلمَّا حذف المضافُ ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ ، وهو ضمير المتكلِّم ، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم ، وهو وجهٌ لطيفٌ " .
قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى ، وهو : خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن " مسيري " في الأصل من رابطٍ يربطها به ؛ ألا ترى أنه ليس في قوله " حتَّى أبلغ " ضمير يعود على " مسيري " إنما يعود على المضاف إليه المستتر ، ومثل ذلك لا يكتفى به .
ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوفٌ ، تقديره : حتى أبلغ به ، أي : بمسيري .
وإن كانت التامة ، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزمُ المسير والطَّلبَ ، ولا أفارقه ، ولا أتركه ؛ حتَّى أبلغ ؛ كما تقول : لا أبرح المكان ، فعلى هذا : يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به ، كما تقدَّم تقريره فالحذف لابدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [ في أحد وجهي النقصان ]{[21194]} .
وقرأ العامة " مجمع " بفتح الميم ، وهو مكان الاجتماع ، وقيل : مصدر ، وقرأ{[21195]} الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها ، وهو شاذٌّ ؛ لفتح عين مضارعه .
قوله : " حُقُباً " منصوبٌ على الظرف ، وهو بمعنى الدَّهر . وقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش ، وقيل : سبعون ، وقرأ الحسن : " حُقْباً " {[21196]} بإسكان القاف ، فيجوز أن يكون تخفيفاً ، وأن يكون لغة مستقلة ، ويجمع على " أحقابٍ " كعنقٍ وأعناقٍ ، وفي معناه : الحقبةُ بالكسر ، قال امرؤُ القيس :
فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقْبةً لا تُلاقِهَا *** فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ{[21197]}
والحقبة بالضمِّ أيضاً ، وتجمع الأولى على حقبٍ ، بكسر الحاء كقربٍ ، والثانية على حقبٍ ، بضمِّها ؛ كقربٍ .
فإن قيل قوله : " أوْ أمْضِيَ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منسوق على " أبْلُغَ " يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغه المجمع ، أو بمضيِّه حقباً .
والثاني : أنه تغييةٌ لقوله " لا أبْرَحُ " فيكون منصوباً بإضمار " أنْ " بعد " أو " بمعنى " إلى نحو " لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي " .
فالجواب قال أبو حيان : " فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين ، إلى أن أمضي زماناً ، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين " قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً ؛ فلابدَّ من حصولهما معاً ، نحو : " لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر " فلا بدَّ من حصولِ الغايتين ؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين .
وجعل أبو البقاء{[21198]} " أو " هنا بمعنى " إلاَّ " في أحد الوجهين :
قال : " والثاني : أنها بمعنى : إلاَّ أن أمضي زماناً ؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين " وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى " إلى " المقتضيةِ للغاية ، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ .
قوله : " مجمعُ البَحريْنِ " ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام - : هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق ، قاله قتادة ، [ وقال محمد بن كعب : طنجة ]{[21199]} وقال أبي بن كعبٍ : إفريقيَّة .
وقيل : البحران موسى والخضر ؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ . وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين ؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك ، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه .
ثم قال : " أوْ أمضيَ حُقباً " : أو أسير زماناً طويلاً .
واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه بموضعه بعينه ، فقال موسى : لا أزالُ أمشي ؛ حتَّى يجتمع البحرانِ ، فيصيرا بحراً واحداً ، أو أمضي دهراً طويلاً ؛ حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد ، والعناء العظيم في السَّفر ؛ لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم ، لو سار من المشرق إلى المغرب ؛ لأجل مسألة واحدة ، حقَّ له ذلك .