قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا } الآية .
قال ابن عباس : هي أنطاكية{[21244]} .
وقال ابن سيرين{[21245]} : هي [ الأبلة ]{[21246]} ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل : بَرْقَة .
وعن أبي هريرة{[21247]} : بلدة بالأندلس .
{ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قال أبي بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم : حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً ، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما{[21248]} .
وروي أنَّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيِّفوهما .
قال قتادة : شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف{[21249]} .
وروي عن أبي هريرة : " أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال ، فلم يطعموهما ؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم " {[21250]} .
قوله : { استطعمآ أَهْلَهَا } : جواب " إذا " أي : سألاهم الطعام ، وفي تكرير " أهلها " وجهان :
أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ؛ كقوله : [ الخفيف ]
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ *** نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا{[21251]}
لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً *** كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ{[21252]}
والثاني : أنَّه للتأسيس ؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض ؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك .
فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
فالجواب{[21253]} : أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع ، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد .
فإن قيل : إنَّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمرٌ غير منكرِ ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } .
وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله ؟ .
فالجواب : أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل [ ليلة ]{[21254]} ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم .
فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ؛ بدليل أنَّه قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة ؟ .
فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً ، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك .
قوله : " أنْ يُضيِّفُوهمَا " مفعولٌ به لقوله " أبَوْا " والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه . والحسن{[21255]} وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله .
رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية ، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذَّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء ؛ حتى تصير القراءة " فأتوا أن يضيفوهما " ، أي : أتوا [ لأجل أن ]{[21256]} يضيِّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة{[21257]} .
قوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً .
وقوله : " أنْ ينْقَضَّ " مفعول للإرادة ، و " انقضَّ " يحتمل أن يكون وزنه " انفعل " من انقضاضِ الطائر ، أو من القضَّة ، وهي الحصى الصِّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتَّت ، كالحصى ، ومنه طعام قَضَضٌ ، إذا كان فيه حصى صغارٌ ، وأن يكون وزنه " افْعَلَّ " ك " احمَرَّ " من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة{[21258]} الأعمش " يُرِيدُ ليُنْقَضَ " مبنيًّا للمفعول ؛ واللام كهي في قوله { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وما قرأ به أبيٌّ " يُرِيدُ أن ينقض " بغير لامِ كيْ .
وقرأ الزهريُّ " أن ينقاضَ " بألف بعد القاف . قال الفارسي : " هو من قولهم قضته فانقاضَ " أي : هدمته ، فانهدم . قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ ، والأصل : " انْقيضَ " فأبدلت الياء ألفاً ، ولمَّا نقل أبو البقاء{[21259]} هذه القراءة قال : " مثل : يَحمارُّ " ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه " يفعالَّ " ونقل أبو البقاء : أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد ، قال : " هو من قولك : انقاضَ البناءُ ، إذا تهدَّم " .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه- ، وعكرمة في آخرين " يَنقَاصُ " بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : " وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً " وأنشد لذي الرّمّة :
. . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ{[21260]}
وقيل : إذا تصدَّعتْ ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ : [ الطويل ]
فراقٌ كقَيْصِ السنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه *** لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ{[21261]}
ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا .
وقد ورد في النَّثر والنَّظم ، قال الشاعر : [ الوافر ]
يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ *** ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ{[21262]}
وكذا قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] وقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ومن أنكر [ المجاز ]{[21263]} مطلقاً أو في القرآن خاصة ، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ ؛ كالحيوانات ، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب .
وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا .
قوله : " فأقَامهُ " قيل : [ نقضه ]{[21264]} ، ثم بناه ، قاله ابن عبَّاس{[21265]} .
وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث . وهو قول سعيد بن جبير .
واعلم أن ذلك العالم ، لمَّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام ، فلذلك نسيَ موسى قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فلا جرم قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم ؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : " هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ " .
قوله : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قرأ ابن{[21266]} كثير ، وأبو عمرو " لتخِذْتَ " بفتح التاء ، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ ك " تَعِبَ يَتْعَبُ " . والباقون " لاتَّخذتَ " بهمزة الوصل ، وتشديد التاءِ ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدلٌ من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ من " اتَّقَى " نحو قوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو{[21267]}
أم هما من تخذَ ، والتاء أصيلةٌ ، ووزنهما فعل وافتعل ؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ ؛ لأنَّه بمعنى الكسب .
قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامة على الإضافة ؛ اتِّساعاً في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل . كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ{[21268]}
وحكى القفال{[21269]} عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل ؛ لقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا . قاله الزجاج .
وقرأ ابن أبي{[21270]} عبلة " فِراقٌ " بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة " بين " إلى غير متعددٍ ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك : " المَالُ بيني " لم يكن كلاماً ؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلانٍ .
وقوله : " هذا " أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرِّق بيننا .