اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} (77)

قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا } الآية .

قال ابن عباس : هي أنطاكية{[21244]} .

وقال ابن سيرين{[21245]} : هي [ الأبلة ]{[21246]} ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل : بَرْقَة .

وعن أبي هريرة{[21247]} : بلدة بالأندلس .

{ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قال أبي بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم : حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً ، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما{[21248]} .

وروي أنَّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيِّفوهما .

قال قتادة : شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف{[21249]} .

وروي عن أبي هريرة : " أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال ، فلم يطعموهما ؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم " {[21250]} .

قوله : { استطعمآ أَهْلَهَا } : جواب " إذا " أي : سألاهم الطعام ، وفي تكرير " أهلها " وجهان :

أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ؛ كقوله : [ الخفيف ]

لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ *** نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا{[21251]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً *** كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ{[21252]}

والثاني : أنَّه للتأسيس ؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض ؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك .

فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .

فالجواب{[21253]} : أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع ، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد .

فإن قيل : إنَّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمرٌ غير منكرِ ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } .

وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله ؟ .

فالجواب : أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل [ ليلة ]{[21254]} ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم .

فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ؛ بدليل أنَّه قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة ؟ .

فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً ، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك .

قوله : " أنْ يُضيِّفُوهمَا " مفعولٌ به لقوله " أبَوْا " والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه . والحسن{[21255]} وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله .

رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية ، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذَّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء ؛ حتى تصير القراءة " فأتوا أن يضيفوهما " ، أي : أتوا [ لأجل أن ]{[21256]} يضيِّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة{[21257]} .

قوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً .

وقوله : " أنْ ينْقَضَّ " مفعول للإرادة ، و " انقضَّ " يحتمل أن يكون وزنه " انفعل " من انقضاضِ الطائر ، أو من القضَّة ، وهي الحصى الصِّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتَّت ، كالحصى ، ومنه طعام قَضَضٌ ، إذا كان فيه حصى صغارٌ ، وأن يكون وزنه " افْعَلَّ " ك " احمَرَّ " من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة{[21258]} الأعمش " يُرِيدُ ليُنْقَضَ " مبنيًّا للمفعول ؛ واللام كهي في قوله { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وما قرأ به أبيٌّ " يُرِيدُ أن ينقض " بغير لامِ كيْ .

وقرأ الزهريُّ " أن ينقاضَ " بألف بعد القاف . قال الفارسي : " هو من قولهم قضته فانقاضَ " أي : هدمته ، فانهدم . قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ ، والأصل : " انْقيضَ " فأبدلت الياء ألفاً ، ولمَّا نقل أبو البقاء{[21259]} هذه القراءة قال : " مثل : يَحمارُّ " ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه " يفعالَّ " ونقل أبو البقاء : أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد ، قال : " هو من قولك : انقاضَ البناءُ ، إذا تهدَّم " .

وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه- ، وعكرمة في آخرين " يَنقَاصُ " بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : " وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً " وأنشد لذي الرّمّة :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ{[21260]}

وقيل : إذا تصدَّعتْ ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ : [ الطويل ]

فراقٌ كقَيْصِ السنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه *** لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ{[21261]}

ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا .

وقد ورد في النَّثر والنَّظم ، قال الشاعر : [ الوافر ]

يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ *** ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ{[21262]}

والآية من هذا القبيل .

وكذا قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] وقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ومن أنكر [ المجاز ]{[21263]} مطلقاً أو في القرآن خاصة ، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ ؛ كالحيوانات ، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب .

وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا .

قوله : " فأقَامهُ " قيل : [ نقضه ]{[21264]} ، ثم بناه ، قاله ابن عبَّاس{[21265]} .

وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث . وهو قول سعيد بن جبير .

واعلم أن ذلك العالم ، لمَّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام ، فلذلك نسيَ موسى قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فلا جرم قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم ؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : " هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ " .

قوله : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قرأ ابن{[21266]} كثير ، وأبو عمرو " لتخِذْتَ " بفتح التاء ، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ ك " تَعِبَ يَتْعَبُ " . والباقون " لاتَّخذتَ " بهمزة الوصل ، وتشديد التاءِ ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدلٌ من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ من " اتَّقَى " نحو قوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو{[21267]}

أم هما من تخذَ ، والتاء أصيلةٌ ، ووزنهما فعل وافتعل ؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ ؛ لأنَّه بمعنى الكسب .

قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامة على الإضافة ؛ اتِّساعاً في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل . كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ{[21268]}

وحكى القفال{[21269]} عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل ؛ لقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا . قاله الزجاج .

وقرأ ابن أبي{[21270]} عبلة " فِراقٌ " بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة " بين " إلى غير متعددٍ ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك : " المَالُ بيني " لم يكن كلاماً ؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلانٍ .

وقوله : " هذا " أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرِّق بيننا .


[21244]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/429) وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن ابن عباس.
[21245]:ينظر: معالم التنزيل 3/175.
[21246]:في ب: الأيلة.
[21247]:ينظر: معالم التنزيل 3/175.
[21248]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/429) وعزاه إلى الديلمي.
[21249]:ينظر : البغوي (3/175).
[21250]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/175).
[21251]:تقدم.
[21252]:تقدم برقم 519.
[21253]:ينظر: الفخر الرازي 21/133.
[21254]:في ب: يوما.
[21255]:ينظر: الإتحاف 2/222، والبحر 6/143، والدر المصون 4/475.
[21256]:في ب: لأن.
[21257]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/134).
[21258]:ينظر في قراءاتها: المحتسب 2/31، والإتحاف 2/222، والشواذ 81، والبحر 6/143، والدر المصون 4/476.
[21259]:ينظر: الإملاء 2/107.
[21260]:جزء من عجز بيت هو: يغشى الكناس بروقيه ويهدمه من هائل الرمل............................................. ينظر: ديوانه 29، البحر المحيط 6/143، الدر المصون 4/476.
[21261]:ينظر: ديوانه 1/138، واللسان (قيص)، والدر المصون 4/476.
[21262]:ينظر: الرازي 21/134.
[21263]:في ب: الجواز.
[21264]:في أ: هدمه.
[21265]:ينظر: معالم التنزيل 3/175.
[21266]:ينظر: السبعة 396، والنشر 2/314، والتيسير 135، والحجة 425، وإعراب القراءات 1/408، والحجة للقراء السبعة 1/163، والقرطبي 11/23، والبحر 6/44، والدر المصون 4/476.
[21267]:ينظر: روح المعاني 6/17، الدر المصون 4/476.
[21268]:تقدم.
[21269]:ينظر : الفخر الرازي 21/134.
[21270]:ينظر : الكشاف 2/740، والبحر 6/144، والدر المصون 4/477.