قوله : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وكان اسمهما " أصْرَم " و " صَرِيم " .
واعلم أنه سمَّى القرية في قوله : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله : " يَتيميْنِ في المدينةِ " فدلَّ على جواز [ تسمية ] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : " وكَان تحته كنزٌ لهُمَا " .
روى أبو الدرداء{[21289]} عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " كَانَ ذهباً ، وفضَّة " .
وقال عكرمة : كان مالاً{[21290]} ، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ .
وعن ابن عباس{[21291]} قال : " كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ ، كيف يفرحُ ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها ، لا إله إلا الله ، محمدُ رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [ لمن ] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرِّ ، وأجريته على يديه " .
وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً ، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال ، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم . وهذا اللوح كان جامعاً لهما .
" وكان أبُوهمَا صالحاً " قيل : كان [ اسمه ] " كَاشِحٌ " وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك ؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟ .
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به ، إما أن ذلك الوصيَّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ ، ثم قال : " فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما " أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما .
وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما " رحْمةً من ربِّك " أي : نعمة من ربِّك .
وفي نصب " رَحْمَةً " ثلاثة أوجه :
الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمة .
الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر ؛ لأنَّ معنى " فأراد ربُّك أن يبلغا " معنى : " فرحمهما " ثم قال : وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي ، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه ، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم ، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع ، " وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً " أي : لم تطقْ عليه صبراً .
قوله : " تَسْطِعْ " قيل أصله " اسْتطاعَ " فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين ، وهذا تكلف بعيدٌ .
وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا ، ويقال : استتاع - بتاءين ، واستاع - بتاء واحدة ، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ .
اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر ؛ كما قال - عليه السلام - : " نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ " {[21292]} وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لأنَّ الظاهر في أموال النَّاس ، وفي أرواحهم في المسألة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف ؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف ، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور ، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى . إذا عرف هذا ؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمَّا الأولى : فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ ، لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها ، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّكها وبين ألاَّ يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية ، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ ؛ فوجب تحمُّله ؛ لدفع الضرر الثاني ؛ لكونه أعظم ضرراً .
وأمَّا المسألة الثانية فكذلك ؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين ؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله .
والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك ؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضررٌ شديدٌ ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه .
فإن قيل : فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه ، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها ؟
فالجواب : أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن ، وتطهير القلب عن العلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : { وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً } ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور .
احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين ؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة .
واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها ؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم ؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب .
فإن قيل : هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض ؟ .
فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك .
كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسألة التترُّس بالمسلمين .
واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية ، إذ لو كان كذلك ، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً .
اعلم أنَّه قال : { فأردتُّ أن أعيبها } وقال : { فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ } ، وقال : { فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما } فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيَّة واحدة ، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : { فأرَدْتُ أن أعيبها } ولمَّا ذكر القتل ، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى .
اختلفوا : هل الخضر حيٌّ أم لا ؟ فقيل : إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدِّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد .
وقيل : إنه ميتٌ ، لقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام بعدما صلى العشاءَ ليلة : " أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه ، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ " {[21293]} ولو كان الخضر حيًّا ، لكان لا يعيش بعده .
رُويَ أنَّ موسى لمَّا أراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدِّث به ، واطلبه لتعمل به .