اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

قوله : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وكان اسمهما " أصْرَم " و " صَرِيم " .

واعلم أنه سمَّى القرية في قوله : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله : " يَتيميْنِ في المدينةِ " فدلَّ على جواز [ تسمية ] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : " وكَان تحته كنزٌ لهُمَا " .

روى أبو الدرداء{[21289]} عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " كَانَ ذهباً ، وفضَّة " .

وقال عكرمة : كان مالاً{[21290]} ، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ .

وعن ابن عباس{[21291]} قال : " كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ ، كيف يفرحُ ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها ، لا إله إلا الله ، محمدُ رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [ لمن ] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرِّ ، وأجريته على يديه " .

وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً ، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال ، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم . وهذا اللوح كان جامعاً لهما .

" وكان أبُوهمَا صالحاً " قيل : كان [ اسمه ] " كَاشِحٌ " وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك ؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟ .

الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به ، إما أن ذلك الوصيَّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ ، ثم قال : " فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما " أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما .

وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما " رحْمةً من ربِّك " أي : نعمة من ربِّك .

وفي نصب " رَحْمَةً " ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول له .

الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمة .

الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر ؛ لأنَّ معنى " فأراد ربُّك أن يبلغا " معنى : " فرحمهما " ثم قال : وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي ، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه ، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم ، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع ، " وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً " أي : لم تطقْ عليه صبراً .

قوله : " تَسْطِعْ " قيل أصله " اسْتطاعَ " فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين ، وهذا تكلف بعيدٌ .

وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا ، ويقال : استتاع - بتاءين ، واستاع - بتاء واحدة ، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ .

فصل

اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر ؛ كما قال - عليه السلام - : " نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ " {[21292]} وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لأنَّ الظاهر في أموال النَّاس ، وفي أرواحهم في المسألة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف ؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف ، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور ، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى . إذا عرف هذا ؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمَّا الأولى : فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ ، لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها ، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّكها وبين ألاَّ يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية ، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ ؛ فوجب تحمُّله ؛ لدفع الضرر الثاني ؛ لكونه أعظم ضرراً .

وأمَّا المسألة الثانية فكذلك ؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين ؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله .

والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك ؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضررٌ شديدٌ ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه .

فإن قيل : فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه ، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها ؟

فالجواب : أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن ، وتطهير القلب عن العلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : { وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً } ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور .

فصل

احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين ؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة .

واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها ؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم ؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب .

فإن قيل : هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض ؟ .

فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك .

كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسألة التترُّس بالمسلمين .

واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية ، إذ لو كان كذلك ، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً .

فصل

اعلم أنَّه قال : { فأردتُّ أن أعيبها } وقال : { فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ } ، وقال : { فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما } فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيَّة واحدة ، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : { فأرَدْتُ أن أعيبها } ولمَّا ذكر القتل ، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى .

فصل

اختلفوا : هل الخضر حيٌّ أم لا ؟ فقيل : إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدِّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد .

وقيل : إنه ميتٌ ، لقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام بعدما صلى العشاءَ ليلة : " أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه ، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ " {[21293]} ولو كان الخضر حيًّا ، لكان لا يعيش بعده .

رُويَ أنَّ موسى لمَّا أراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدِّث به ، واطلبه لتعمل به .


[21289]:ينظر : المصدر السابق.
[21290]:ينظر: معالم التنزيل 3/177.
[21291]:ينظر: معالم التنزيل 3/177.
[21292]:اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم، ما نصه معناه: إني أمرت بالحكم الظاهر، والله يتولى السرائر، كما قال صلى الله عليه وسلم انتهى، ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ، ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره، نعم في صحيح البخاري عن عمر إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، بل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رفعه: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، وفي المتفق عليه من حديث أم سلمة: إنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، قال ابن كثير: إنه يؤخذ معناه منه، وقد ترجم له النسائي في سننه، باب الحكم بالظاهر، وقال إمامنا ناصر السنة أبو عبد الله الشافعي رحمه الله عقب إيراده في كتاب الأم: فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه إنما يقضي بالظاهر، وأن أمر السرائر إلى الله، والظاهر كما قال شيخنا رحمه الله، أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثا آخر منفصلا عن حديث أم سلمة فنقله كذلك ثم قلده من بعده، ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم، حتى أورده الرافعي في القضاء، ثم رأيت في الأم بعد ذلك، قال الشافعي: روي أنه صلى الله عليه وسلم، قال: تولى الله منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات، وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد: أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام ، فقال ـ فيما نقل عنه مغلطاي مما وقف عليه ـ : إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض؛ فقال المقضي عليه قضيت علي والحق لي، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسنادا أم لا. المقاصد [96 – 97].
[21293]:أخرجه البخاري (278) كتاب مواقيت الصلاة: باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء حديث (601) ومسلم (4/1965) كتاب فضائل الصحابة حديث (217/2537) من حديث ابن عمر.