اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

فصل في معنى الآية

المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل .

قال عمروُ بنُ ميمُون : ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب ، ثم تلا هذه الآية .

وقال بعضُ العلماءِ : أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة .

قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ " ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب ، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل{[21550]} .

قالت المعتزلةُ : هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء ؛ وهذا باطلٌ ؛ لأنَّ زكريَّا -صلوات الله عليه وسلامه- ما كان له علمٌ بحالها ومكانها ، فكيف بتلك المعجزات ؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم ، أو إرهاصاً لعيسى- صلوات الله عليهما- ، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً ، إذا ذاك ؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء ، وليس ذاك وقت ثَمر .

قوله تعالى : { وَقَرِّي عَيْناً } : نصب " عًيْناً " على التمييز منقولٌ من الفاعل ؛ إذ الأصل : لتقرَّ عينُك ، والعامَّة على فتح القاف من " قَرِّي " أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع .

وقُرئ{[21551]} بكسر القاف ، وهي لغةُ نجدٍ ؛ يقولون : قرَّت عينهُ تقرُّ ، بفتح العين في الماضي ، وكسرها في المضارع ، والمشهورُ : أن مكسور العين في الماضي ل " العَيْنِ " ، والمفتوحها في " المَكَان " يقال : قررتُ بالمكانِ اقرُّ به ، وقد يقال : قررتُ بالمكانِ بالكسر ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] .

وفي وصف العين بذلك تأويلان :

أحدهما : أنَّه مأخوذٌ من " القُرّ " وهو البردُ : وذلك أنَّ العين ، إذا فرح صاحبها ، كان دمُعها قارًّا ، بارداً ، وإذا حزن ، كان حارًّا ؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه : " أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ " وفي الدعاء له : " أقر اللهُ عيْنه " وما أحلى قول أبي تمَّام -رحمه الله تعالى- : [ الطويل ]

فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ *** وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ{[21552]}

والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره .

المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر " وقرّي عيناً " وطيبي{[21553]} نفساً ، وقدَّم الأكل على الشرب ؛ لأن حاجة النُّفساء ، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء ؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم ، قيل : " قَرِّي عيْناً " بولدك عيسى ، وتقدَّم معناه .

فإن قيل : إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح ، والجُوع ألمُ البدنِ ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ ، فقُدِّم إليها علفٌ ، وعندها ذئبٌ ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف ، مع جوعها ؛ خوفاً من الذئب ، ثم كسر رجلها ، وقدم العلفُ إليها ، فتناولت العلف ، مع ألم البدن ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ ، وإذا كان كذلك ، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف ؟ .

فالجوابُ : لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً ؛ لأنَّ بشارة جبريل -صلوات الله عليه- كانت قد تقدَّمت ، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى .

قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت " إن " الشرطيةُ على " ما " الزائدةِ للتوكيد ، فأدغمتْ فيها ، وكتبتْ متَّصلة ، و " تَرَينَّ " تقدَّم تصريفه .

أي : " أن تري " ، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد ، فكسرتِ الياءُ ، لالتقاء الساكنين .

معناه : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة ، وقرأ أبو عمروٍ في رواية " ترَئِنَّ " بهمزة مكسورة بدل الياء ، وكذلك رُوي عنه{[21554]} " لتَرؤنَّ " بإبدالِ الواو همزةً ، قال الزمخشري : " هذا من لٌغةِ من يقولُ : لبَأتُ بالحَجِّ ، وحلأتُ الَّسويقَ " -يعني بالهمز- وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين " وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ ؛ فقال : " هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين " .

وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ ، وشيبةُ ، وطلحةُ{[21555]} " تَرَيْنَ " بياءٍ ساكنة ، ونون خفيفة ، قال أبن جني : " وهي شاذَّةٌ " . قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ ، فيحذف نون الرفع ؛ كقُول الأفوهِ : [ السريع ]

إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ *** ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس{[21556]}

ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً ، وهذا نظيرُ قول الآخر : [ البسيط ]

لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ *** يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ{[21557]}

فلم يعمل " لَمْ " وأبقى نون الرَّفع .

و " من البشر " حالٌ من " أحَداً " لأنه لو تأخَّر ، لكان وصفاً ، وقال أبو البقاء{[21558]} : " أو مفعول " يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله .

قوله تعالى : { فَقُولِي } بين هذا الجواب ، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك الكلام ، فقُولي ، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها " فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا " كلامٌ ؛ فيكون ذلك تناقضاً ؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ ، وجوابه ما تقدَّم .

ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال ، بل صبرتْ ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ ، فذكرت لهم : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } .

وقيل : المرادُ بقوله " فقٌولي " إلى آخره ، أنه بالإشارة ، وليس بشيء ؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ .

وقرأ{[21559]} زيدُ بن عليٍّ " صِيَاماً " بدل " صوماً " وهما مصدران .

فصل في معنى صوماً

معنى قوله تعالى : { صَوْماً } : أي صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود -رضي الله عنه- ، والصَّوم في اللُّغة ، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام .

قال السديُّ : كان في بني إسرائيل{[21560]} من إذا أراد أن يجتهد ، صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطَّعام ، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ .

قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة ، ولا تكلِّم الإنْسَ .

قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت ؛ لئلاَّ تشرع مع من اتَّهَمَهَا في الكلام ؛ لمعنيين :

أحدهما : أن كلام عيسى -صلوات الله عليه- أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما ، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض{[21561]}[ الأمر ]{[21562]}إلى الأفضلِ أولى .

الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء ، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً .


[21550]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/485) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
[21551]:ينظر: القرطبي 11/65، والبحر المحيط 16/175 والكشاف 3/14، والدر المصون 4/502.
[21552]:ينظر البيت في ديوانه (61)، والبحر المحيط 6/162، والدر المصون 4/502.
[21553]:سقط من أ.
[21554]:ينظر في قراءاتها: الشواذ 84، والمحتسب 2/42، والبحر 6/175 والكشاف 3/14، والدر المصون 4/502.
[21555]:الآية رقم 6 من التكاثر "لترون الجحيم" ينظر: المحتسب 2/371، والبحر 6/175.
[21556]:ينظر البيت في البحر 6/175، القرطبي 11/66، روح المعاني 16/86، الدر المصون 4/502.
[21557]:ينظر البيت في الخصائص 1/388، والمحتسب 2/42، شرح المفصل لابن يعيش 7/8، المغني 2/339، التصريح 2/247، الهمع 2/56، الأشموني 4/6، الدرر 2/72، الخزانة 9/5، اللسان "صلف"، الدر المصون 4/502.
[21558]:ينظر: الإملاء 2/113.
[21559]:ينظر: البحر المحيط 6/176، والكشاف 3/14 والدر المصون 4/502.
[21560]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/193) عن السدي.
[21561]:في ب: الكلام.
[21562]:في ب: الكلام.