قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } هذه لام " كي " بعدها " أن " المصدرية الناصبة للمضارع ، و " لا " نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه ، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ }
[ الأنفال : 73 ] و " أن " هنا واجبة الإظهار ، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين ، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } .
وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا ، ولا حاجة إلى ذلك ، و " للناس " خبر ل " يكون " مقدّم على اسمها ، وهو " حجّة " ، و " عليكم " في محل نصب على الحال ؛ لأنه في الأصل صفة النكرة ، فلما تقدم عليها انتصب حالاً ، ولا يتعلق ب " حجة " لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه ، وهو ممتنع ؛ لأنه في تأويل صلة وموصول ، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب " حجة " وهو ضعيف ، ويجوز أن يكون " عليكم " خبراً ل " يكون " ويتعلق " للناس " ب " يكون " على رأي من يرى أن " كان " الناقصة تعمل في الظرف وشبهه ، وذكر الفعل في قوله " يكون " ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي ، وحسن ذلك الفصل أيضاً .
وقال أبو روق : المراد ب " النَّاس " : أهل الكتاب .
ونقل عن قتادة والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عليه الصلاة والسلام - تحوّل إلى القبلة ، فلما حوّلت بطلت حجّتهم .
" إلا الذين ظلموا " ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا .
وقيل : لما أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة ، بناءً على معتقدهم ، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم .
وقيل : أراد بالحجة المحاجّة ، فقال : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } فإنهم يحاجونكم بالباطل ]{[5]} .
قوله تعالى : " إلاَّ الَّذِينَ " قرأ الجمهور " إلاَّ " بكسر " الهمزة " وتشديد " اللام " .
وقرأ{[6]} ابن عباس ، وزيد بن علي ، وابن زيد بفتحها ، وتخفيف " اللام " على أنها للاستفتاح .
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال :
أظهرها : وهو اختيار الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل .
قال الزمخشري : معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه ، وحبّاً لهم ، وأطلق على قولهم : " حجّة " ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة .
والحجّة كما أنها تكون صحيحة ، فقد تكون أيضاً باطلة ، قال الله تعالى : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الشورى : 16 ] .
وقال تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }
[ آل عمران : 61 ] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة ، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة ، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه ، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة .
وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجّة الطريق ، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة .
وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة ، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم .
الثاني : أنه استثناء منقطع ، فيقدر ب " لكن " عند البصريين ، وب " بل " عند الكوفيين ؛ لأنه استثناء من غير الأول ، والتقدير : لكن الذين ظلموا ، فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة يضعونها موضع الحجة [ نظيره قوله : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ }
وقال : { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] .
ويقال : ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي ، أي : لكنه يتعدى ]{[7]} .
ومثار الخلاف هو : هل الحجّة هي الدليل الصحيح ، أو الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً ؟
فعلى الأولى يكون منقطعاً ، وعلى الثاني يكون متصلاً .
الثالث : وهو قول أبي عبيدة أن " إلا " بمعنى " الواو " العاطفة وجعل من ذلك قوله : [ الوافر ]
843 - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ{[8]}
844 - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ *** دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا{[9]}
تقدير ذلك عنده : " ولا الذين ظلموا ، والفرقدان ، ودار مروان " وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره .
الرابع : أن " إلا بمعنى بعد ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قول الله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } [ الدخان : 56 ] .
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] تقديره : بعد الموتة ، وبعد ما قد سلف ، هذا من أَفْسَد الأقوال ، وأنكرها ، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه .
و " الذين " في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً ، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في " عليكم " ، والتقدير : لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة .
ونقل عنه أنه كان{[10]} يقرأ : " إلاَّ على الذين " كأنه يكرر العامل في البدل على حَدّ قوله :{ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ }
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع ؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل ، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش ، وتأول غيره ما ورد من ذلك .
وأما قراءة ابن عباس ب " ألا " للاستفتاح ، ففي محل " الذين " حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : " فَلاَ تَخْشَوْهُمْ " ، وإنما دخلت " الفاء " في الخبر ؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط ، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل : من يظلم الناس فلا تخشوهم ، ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال ، أي : لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم .
الثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش ، فإنه يجيز زيادة الفاء .
الثالث : نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء .
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ{[11]} : " إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا " وجعل " إلى " حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى " مع " ، والتقدير : لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين ، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه " إلا الذين " بتخفيف " إلاَ " فاعتقد ذلك فيها ، وله نظائر مذكورة عندهم .
و " فهم " في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف ، ويحتمل أن تكون " من " للتبعيض ، وأن تكون للبيان .
اعلم أن هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة .
إحداها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا .
وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه ؟
وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم ، والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة ، فقد ترك دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام ، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين ؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تمييز من اتبعه ب " مكة " ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة ، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : " لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمداً عليه الصلاة والسلام - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة ، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر ، وذلك ظلم [ للنفس ]{[12]} على ما قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] فلا جرم ، قال الله تعالى { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [ فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ } .
أي : لا تخشوا من يتعنّت ويجادل ، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم ، فإنهم يضرونكم ، واخشوني ، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم ، وفرضت عليكم .
و " الخَشْية " : أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف ، و " الخوف " : فزع في القلب تخف له الأعضاء ، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً ، ومعنى التحقير لكل من سوى الله تعالى ، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى .
قال بعضهم : الخوف أوّل المراتب ، وهو الفزع ، ثم بعده الوَجَل ، ثم الخَشْية ، ثم الرَّهْبة ]{[13]} .
قوله : " وَلأُتِمَّ " فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على قوله : " لِئَلاَّ يَكُونَ " كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين :
[ إحداهما : لانقطاع حجّتهم عنه .
والثانية : لإتمام النعمة . وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون ، فلما حُوِّل - عليه الصلاة والسلام - إلى " بيت المقدس " لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة ، لما فيها من شرف البُقْعة ، فهذا موضع النعمة ]{[14]} ، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى .
الثاني : أنه معطوف على علّة محذوفة ، وكلاهما [ معلولها ]{[15]} الخشية السابقة ، فكأنه قيل : واخشوني [ لأوفقكم ]{[16]} ولأتم نعمتي عليكم .
الثالث : أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره : وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم " .
الرابع : وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها ، و " الواو " زائدة ، تقديره : واخشوني لأتم نعمتي .
وهذه لام " كي " و " أن " مضمرة بعدها ناصبة للمضارع ، فينسبك منهما مصدر مجرور باللام وتقدم تحقيقه ، و " عليكم " فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " أتمّ " .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " نعمتي " ، أي : كائنة عليكم .
فإن قيل : إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }
[ المائدة : 3 ] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } ؟ !
فالجواب : أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خصه به .
وعن عليّ رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام .
وقوله : " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " فيه سؤال ، وهو أن لَفْظَه التَّرَجِّي ، وهو في حق الله - تعالى - مُحَال ؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه .
الأول : أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي : بإتمام النعمة ترجون الثَّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد .
الثاني : قال بعض المفسرين : كل لفظ " لعلّ " في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها ، فنقول لطالب الحاجة : لعلّ حاجتك تقضى .
والاهتداء يطلق ، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] الآية ، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق .