قوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و " الطَّلاَقُ " يجوز أن يكون مصدر " طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً " ، وأن يكون اسم مصدر ، وهو التطليقُ ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم ، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر ، والتقدير : عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان .
والتثنية في " مَرَّتَانِ " حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد ، وقال الزمخشريُّ : " إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير " وجعلَهَا مثْلَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَاذَيْكَ . وردَّ عليه أبو حيَّان{[3646]} بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً ، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر ، أمَّا المناقضة ، فإنه قال : الطَّلاق مَرَّتَان ، أي : الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً ، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة ، وأمَّا المخالفة ، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر ، بل مرتين فقط ؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك : { فَإِمْسَاكٌ } ، أي : بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية ، " أَو تَسْرِيحٌ " أي : بالطلقة الثالثة ؛ ولذلك جاء بعده " فَإِنْ طَلَّقَهَا " . انتهى ما ردَّ به عليه ، قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره ، فينظر كلامه في " الكَشَّاف " ؛ فإنه صحيحٌ .
والألف واللام في " الطَّلاَق " قيل : هي للعهد المدلول عليه بقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة :228 ] وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها ، ولا تعلُّق لها بها .
قوله : " فَإِمْسَاكٌ " في الفاء وجهان :
أحدهما : أنها للتعقيب ، أي : بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ ؛ أنه مرَّتان ، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين .
والثاني : أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ ، تقديره : فإن أوقع الطَّلقتين ، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ .
وارتفاعُ " إِمْسَاكٌ " على أحد ثلاثة أوجهٍ : إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً ، تقديره عند بعضهم : فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً ، تقديره : فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فالواجب إمساكٌ .
والثالث : أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ ، أي : فليكن إمساك بمعروفٍ
قوله : " بِمَعْرُوفٍ " و " بِإِحْسَانٍ " في هذه الباء قولان :
أحدهما : أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه ، ويكون معناها الإلصاق .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها ، فتكون في محلِّ رفعٍ ، أي : فإسماك كائنٌ بمعروفٍ ، أو تسريح كائنٌ بإحسان .
قالوا : ويجوز في العربيَّة نصب " فَإِمْسَاكٌ " ، و " تَسْرِيحٌ " على المصدر ، أي : فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف ، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان ، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ .
والتَّسريح : الإرسال والإطلاق ، ومنه قيل للماشية : سَرْحٌ ، وناقَةٌ سُرُحٌ ، أي : سهلة السَّير ؛ لاسترسالها فيه .
وتسريح الشَّعر : تخليص بعضه من بعض ، والإمساك خلاف الإطلاق ، والمساك والمسكة اسمان منه ؛ يقال : إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً .
قال الفرَّاء{[3647]} : يقال : إنه ليس بمساك غلمانه ، وفيه مساكة من جبر ، أي : قُوَّة .
قال القرطبي{[3648]} : وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها : وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق{[3649]} ، وهو قول الشَّافعي .
روى عُروة بن الزُّبير ، قال : كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته ، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم طلَّقها كذلك ، ثم راجعها يقصد مضارَّتها ، فنزلت هذه الآية : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }{[3650]} .
ورُوِي : أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها ، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة ، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رضي الله عنها - ، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها ، يُضارّها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل قوله تعالى{[3651]} : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } يعني : الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان ، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً ، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر .
اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية :
فقال بعضهم : هذا حُكم مُبتدأ ، ومعناه : أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب أن يكون تطليقةً بعد أُخرى ، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة ، وهذا قول من قال : الجمع بين الثَّلاث حرامٌ .
قال أبو زيد الدَّبوسيّ{[3652]} : هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس ، وعبد الله بن عمر ، وعمران بن حصين ، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء ، وحذيفة .
وقال آخرون : ليس بابتداء كلام ، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى : أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان ، ولا رجعة بعد الثَّلاث ، وهو قول من جوَّز الجمع بين الثَّلاث ، وهو مذهب الشَّافعي .
حُجَّة القول الأَوَّل : أن الأَلف واللام في " الطَّلاَقِ " إذا لم يكونا للمعهود ، أفادا الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة ، ولو قال هكذا ، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق ؛ لأن المرَّات{[3653]} لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع .
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون .
فالجواب : ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة ، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق ، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر ، أي : طَلِّقُوا مَرَّتَين ، يعني : دَفْعتين ، وإنما عدل عن لفظ الخبر ؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر ، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه . واختلف القائِلُون بهذا على قولين :
الأول وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت : أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً ، لا يقع إلاَّ واحدة .
قال ابن الخطيب{[3654]} : وهذا القولُ هو الأَقيس ، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعيٌ في إدخال تلك المفسدة في الوجود ، وهو غير جائزٍ ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع .
والثاني : قول أبي حنيفة رضي الله عنه : إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ{[3655]} .
حجَّة القول الثَّاني : هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها ؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج ، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً ، أو إلى غاية مُعيَّنة ، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن ، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص ، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة ، هو أن يُوجد طلقتانِ ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين ، فلا يثبِتُ اَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في " الطَّلاقِ " المعهُود السَّابق ، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية ، فيكُون أولى لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة :228 ] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال ؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص ، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة ، فافتقر إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها ، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص ، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً - ، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر .
الثاني : أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ ، كان قوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية ، وهي قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فصار تقدير الآية : الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة ؛ لأنا نقول : إن قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } متعلِّق بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } لا بقوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق ، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة ، لكان قوله : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " طلقة رابعة ، وهو غير جائِزٍ .
الثالث : ما روينا في سبب النُّزول : من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة ، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى ، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها .
اعلم أن معنى الآية : أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة{[3656]} هو أَنْ يوجد مرَّتان ، ثم الواجب بعد ذلك : إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة ، بل على قصدِ الإصلاح ، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة ، " روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ، قيل له - عليه الصلاة والسلام - : فأَين الثَّالثة ؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام- : " هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ " {[3657]} .
الثاني : أن التَّسريح بالإحسان : أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة ، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ{[3658]} .
قال ابن الخطيب{[3659]} : وهو أَقْرَبُ لوجوه :
أحدها : أن " الفَاء " في قوله : " فَإِنْ طَلَّقَها " تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح ، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة ، لكان قوله : فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة ؛ وهو لا يجُوزُ .
وثانيها : أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة ، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أو لا يُراجعها ، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين ، وهو المرادُ بقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله " فَإِنْ طَلَّقَها " ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام ، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة ، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ ، وهو غيرُ جَائِزٍ .
وثالثها : أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق .
ورابعها : أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } والمُراد به الخُلع ، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة ، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه ، فإن صحَّ ذلك الخبر ، فلا مزيد عليه .
والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة : أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه ، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا ؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر ، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع ، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين ، وعند ذلك تحصل التَّجربة ، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ ، وإن كان الأَصلح التَّسريح ، سرَّحها بإِحسان .
واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً :
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج ؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة إِلاَّ طَلْقَتَيْن .
قال عبد الله بن مسعود : الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ{[3660]} ، يعني : يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة ، وهو قول عُثمان ، وزيد بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب ، وإليه ذهب مالِكٌ ، والشَّافِعِي ، وأَحمد ، وإسحاق .
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق ، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين ، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي .
إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع .
وقال عليّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعود : يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ .
وقال ابن عبَّاس : وقوله : ثلاثاً لا معنى له ؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله : في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى ، فيقول : طلَّقت ثلاثاً ، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ ؛ فهو كقول الرَّجُل : قرأت سُورَة كذا ثلاث ؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ ، كان صادِقاً ، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً ، كان كاذِباً ، وكذا لو قال : أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ ، ولو قال : أَحْلِف بالله ثلاَثاً ، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله . وقاله الزُّبير بن العوَّام ، وعبد الرَّحمن بن عوف ، قاله القرطبي{[3661]} .
قوله : " أَنْ تَأْخُذُوا " : " أَنْ " وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل " يَحِلُّ " ، أي : ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ . و " مِمَّا " فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ " تَأْخُذُوا " ، و " مِنْ " على هذا لابتداءِ الغاية . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " شَيْئاً " قُدِّمت عليه ؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً ، و " مِنْ " على هذا للتبعيض ، و " مَا " موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديره : مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة :3 ] وهذا مثلُه ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه .
و " آتَى " يتعدَّى لاثنين ، أولهُما " هُنَّ " والثاني هو العائدُ المحذوفُ ، و " شَيْئاً " مفعولٌ به ناصبُه " تَأْخُذُوا " . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً ، أي : شيئاً مِنَ الأَخْذِ . والوجهانِ منقولانِ في قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ يس :54 ] .
قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَا } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ ، وفي " أَنْ يَخَافَا " وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ ، والتقديرُ : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب ، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله ، وحُذِفَ حرفُ العلةِ ؛ لاستكمالِ شروط النصب ، لاسيما مع " أَنْ " ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه{[3662]} : أهيَ في موضع نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط ، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به ، لنُصِبَ ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون ، أعنِي كونَ " أَنْ " وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، بلا خلافٍ ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له .
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً ، تقديره : ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ ، قال أبو البقاء{[3663]} : والتقديرُ : إلاَّ خائفينَ ، وفيه حَذْفُ مضافٍ ، تقديره : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال ، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ ، والوجهُ الأولُ أحسنُ ، وذلك أَنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال ، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً ، فكيف بما هو في تأْويله ! ! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه{[3664]} على أنَّ " أَنِ " المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ .
والألفُ في قوله " يَخَافَا " و " يُقِيمَا " عائدةٌ على صنفَي الزوجين ، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام ، لقيل : " إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا " بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ ، وقد قَرأَها{[3665]} كذلك عبد الله ، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة ، وهو التفاتٌ أيضاً .
والقراءةُ في " يَخَافَا " بفتحِ الياءِ واضحةٌ ، وقرأها{[3666]} حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول ، وقَد استشكلها جماعةٌ ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب ، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً ، أحسنُها أَنْ يكونَ " أَنْ يُقِيمَا " بدلاً من الضمير في " يَخَافَا " ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه ، تقديره : إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ ، وهذا من بدل الاشتمال ؛ كقولك : " الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا " ، وكان الأصلُ : " إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ " ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو " الوُلاَةُ " ؛ للدلالة عليه ، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وبقيتْ " أَنْ " وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً ؛ كما تقدَّم تقديرُه .
وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ " خَافَ " يتعدَّى إلى مفعولين ك " اسْتَغْفَرَ " ، يعني : إلى أحدِهما بنفسِه ، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، و " أَنْ " وما في حَيِّزها هي الثاني ، وجَعَل " أَنْ " في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ ؛ بأنَّ " خَافَ " لا يتعدَّى لاثنين ، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين ؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك : " خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ " ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به ، فليس هو كالثاني في " اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً " ، وبأن نسبة كَوْنِ " أَنْ " في محلِّ جر عند سيبويه{[3667]} ليس بصحيحٍ ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ ، وتبعه الفراء ، ومذهبُ الخليل : أنها في محلِّ جَرٍّ ، وتبعه الكسائيُّ ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ .
وقال غيره كقوله ؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ " عَلَى " ، والتقدير : إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا ، فَبُنِيَ للمفعولِ ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ " أَنْ " فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل .
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب " اسْتَغْفَرَ " .
وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ ، لا عِلمَ لهم بذلك ، فقال النحَّاسُ{[3668]} : لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ ، ولا اللفظُ ، ولا المعنى .
أمَّا الإِعرابُ : فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ " إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا " ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه ، كان ينبغي أَنْ يُقال : " إِلاَّ أَنْ يُخَافَ " .
وأمَّا اللفظُ : فإِنْ كان على لفظِ " يُخَافَا " ، وَجَبَ أن يقال : فَإِن خِيفَ ، وإن كان على لفظ " خِفْتُمْ " ، وَجَب أن يقال : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا .
وأمَّا المعنى : فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ : " وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ " ، ولم يَقُلْ تعالى : " ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً " ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان ، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ .
وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس :
أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ : فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله .
وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ ، فإنه من باب الالتفاتِ ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً ، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ : " فَإِنْ خَافَا " ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ .
وأمَّا من حيثُ المعنى : فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء .
ووجَّه الفراء{[3669]} قراءةَ حمزةَ ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله " إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا " . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال : " لَمْ يُصِبْ ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على " أَنْ " ، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا ، أي : الأولياءُ ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا ، فالخوفُ واقعٌ على " أَنْ " وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ : إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين ؛ كما تقدَّم تقريره ، وإمَّا على حذف حرف الجرّ ، وهو " على " . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ ، فتكونُ " أَنْ " في قراءةِ " غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ ، أو نصبٍ ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ ؛ إذ الأصلُ : مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا ، أو في محلِّ نصبٍ فقط ؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ ؛ كأنه قيل : إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ .
والثاني : أنه بمعنى العِلْم ، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة{[3670]} . وأنشد [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ{[3671]}
وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي *** أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا{[3672]}
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد " أَنْ " ، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ ، لظهورِ النَّصْب ، وأما البيتُ ، فالمشهورُ في روايتِهِ " فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ " .
والثالث : الظَّنّ ، قاله الفراء ؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ{[3673]} : " إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا " ؛ وأنشد : [ الطويل ]
أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ *** وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي{[3674]}
وعلى هذين الوجهين ، فتكونُ " أَنْ " وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش ؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ " خَافَ " مِنْ أفعالِ التوقُّع ، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين ، ولذلك قال الراغب{[3675]} : " الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا ؛ ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ ، أو نَسْفِ الجبالِ " .
وأصلُ " يُقيمَا " : يُقْوِمَا ، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها ، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً ؛ لسكونها ؛ بعد كسرةٍ ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله : { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة :5 ] .
وزعم بعضهم أنَّ قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } معترضٌ بين قوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ، وبين قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } [ البقرة :230 ] ، وفيه بُعْدٌ .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } " لاَ " واسمُها وخبرُها ، وقوله : { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ ، وهو " عَلَيْهِمَا " ، ولا جائزٌ أن يكونَ " عَلَيْهِمَا " متعلِّقاً ب " جُنَاحَ " و " فِيمَا افتدت " الخبرَ ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً ، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ .
والضميرُ في " عَلَيْهِمَا " عائدٌ على الزوجَيْن ، أي : لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ ، وقال الفراء{[3676]} : إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط ، وإنما أعادَهُ مُثَنى ، والمرادُ واحِدٌ ؛ كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن :22 ] { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف :61 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ *** وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا{[3677]}
وإنما يخرجُ من المِلْحِ ، والنَّاسي " يُوشَعُ " وحدَهُ ، والمنادَى واحدٌ في قوله : " يَا بْنَ عَفَّانَ " . و " مَا " بمعنى " الذي " ، أو نكرةٌ موصوفة ، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً ؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ " بِهِ " عليها ، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً ؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما .
اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً ، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ ؛ كما قال في سورة النساء : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } [ النساء :19 ] وقوله هنا : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ } هو كقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ النساء :19 ] وقال أيضاً : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء :20-21 ] .
فإن قيل : قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } هذا الخِطاب كان للأَزواج ، فكيف يطابقه قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ } وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً ؟
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن .
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام ؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون ، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة : " يُخَافَا " بضم الياءِ ، أي : يعلم ذلك منهما ، يعني : يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين ، ويطابقه قوله : " فَإِنْ خِفْتُمْ " فجعل الخوف لغير الزَّوجين ، ولم يقل : " فإن خافا " . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق ، استثنى هذه الصُّورة ، وهي مسألة الخُلع{[3678]} ، واختلفُوا في هذا الاستثناء ؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع ؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة ؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ .
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود : لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله ، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ ، الخُلْعُ فاسِدٌ ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها ، واستثني هذه الصُّورة .
وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره ؛ لقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء :4 ] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، ويكون الاستثناء منقطعاً ؛ كقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء :92 ] ، أي : لكن إن كان خطأً { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } [ النساء :92 ] .
ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة ، فنقول : الأقسام الممكنة فيه أربعة :
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط ، أو من قبل الزوج فقط ، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما ، أو يكون الخوف من قبلهما معاً ، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ ، فهاهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها ؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية : " أن جميلة بنت عبد الله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس ، وكانت تبغضُهُ أشدَّ البُغض ، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالت : فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه ، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً ، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام . فقال ثابت : يا رسُول الله ، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها ؛ فقال لها : " مَا تَقُولِين ؟ " قالت : نعم وأزيده فقال عليه الصلاة والسلام : لا ، حديقته فقط . ثم قال لثابتٍ : " خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا " ففعل " ، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام{[3679]} . وفي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري{[3680]} .
فإن قيل : قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً ، فكيف قُلْتُم : إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط .
فالجواب : أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج ، فإنها إذا كانت مبغضة للزَّوج إذا لم تعطه ، فربَّما ضربها وشتمها ، وربَّمَا زاد على قدر الواجب ، فحصل الخَوْف لهما جميعاً ؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ ، وأمَّا من جهته ، فقد يزيد على قدرِ الواجب .
فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط ؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية ، فهذا المال حرامٌ ؛ للآية المتقدِّمة .
وأما القِسْم الثالث : ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما ، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع ، والمالُ المأخوذ حلالٌ ، وقال قوم إنه حرامٌ .
وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما ، فالمال حرامٌ أيضاً ؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج ، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا ؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى ؛ وهي قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا } [ النساء :35 ] ، ولم يذكر فيه أخذ المال ، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر ، فهو جائزٌ .
اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به :
فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس : لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - لامرأة ثابتٍٍ حين قالت له : نعم ، وأزيده ، قال : " لا ، حديقَتَهُ " {[3681]} فَقَط ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه{[3682]} - .
قال سعيد بن المُسيَّب : بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل{[3683]} .
وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالعة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي .
قال قومٌ : الخُلع تطليقةٌ ، وهو قول علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، والحسن والشَّعبي ، والنَّخعي ، وعطاء ، وابن السَّائب ، وشُريح ، ومجاهد ، ومكحول ، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد .
والقول الثاني للشَّافعي ، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور .
حجَّة القول الأَوَّل : أنه لو كان فسخاً ، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع ، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر ، وجب أن يجب عليها المهر ؛ كالإقالةِ في البيعِ ، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه . ولما لم يكن كذلك ، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ ، وإذا بطل ذلك ، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ .
حجة القول الثَّاني : قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ثم ذكر الطّلاق ؛ فقال : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة :230 ] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً ، لكان الطَّلاَق أربعاً ، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في " مَعَالم السُّنَن " عن ابن عبَّاسٍ ، وأيضاً أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته ، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه ، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه ، يجب أن يستكشف عنه ، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً ، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ .
وأيضاً روى أبو داود في " سُنَنِه " عن عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت ، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عِدَّتها حيضَة{[3684]} .
قال الخطَّابي : وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ ؛ لأن الله - تعالى - قال : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة :228 ] فلو كانت هذه طلقة ، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة :221 ] إلى هنا .
وقوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أصلُه : تَعْتَدِيُوهَا ، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ ؛ فحُذِفت ، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً ، فحُذِفت الياءُ ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ ، وضُمَّ ما قبلَ الواو ؛ لتصِحَّ ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها .
قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورد لفظ : " الاعْتِدَاء " في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : الاعتِداء : تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات ؛ قال - تعالى - : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة :229 ] .
والثاني : " الاعتِدَاء " القتل ؛ قال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة :178 ] أي : من قتل بعد قبُول التَّوْبة .
الثالث : " الاعْتِداء " الجزاء ؛ قال - تعالى - : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة :194 ] أي : جاوزهُ .
قال القرطبي{[3685]} : إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز ، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان :
والثاني : لا يجوزُ ؛ رواه ابن القاسم عن مالك .
ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها ، وهي لا شيء لها ، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه ، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها .
قال مالك : ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه .
قوله : { وَمَن يَتَعَدَّ } " مَنْ " شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم .
وقوله : " فَأُوْلَئِكَ " جوابها ، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها ، و " هُمُ " من قوله : " فَأُوْلَئِكَ هُم " يحتمل ثلاثة أوجهٍ :
و " الظَّالِمُونَ " على هذين خبر " أُولَئِكَ " والإخبار بمفردٍ .
والثالث : أن يكون مبتدأً ثانياً ، و " الظَّالِمُونَ " خبره ، والجملة خبر " أُولَئِكَ " ، والإخبار على هذا بجملةٍ . ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد ؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد ، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في " الظَّالِمُونَ " أي : المبالغون في الظلم . وحمل أولاً على لفظ " مَنْ " ، فأفرد في قوله " يَتَعَدَّ " ، وعلى معناها ثانياً ، فجمع في قوله : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
و { حُدُودُ اللهِ } : أوامره ونواهيه ، وهي : ما منع الشرع من المجاوزة عنه ، وفي المراد من " الظُّلْمِ " هنا ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : اللَّعن لقوله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ هود :18 ] .
وثانيها : أن الظُّلم [ اسم ذمٍّ وتحقيرٍ ، فيكون جارياً مجرى الوعيد .
وثالثها : أنَّ إطلاق الظلم{[3686]} هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه ؛ حيث أقدم على المعصية ، وظلم المرأة : بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل ، أو كتمت شيئاً ، ممَّا خلق الله في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف ، والتَّسريح بالإحسان ، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ .