لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء ، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق .
قوله : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر ، أي : لِيتَرَبَّصْنَ ، أو عَلَى بابها ؟ قولان ، وقال الكوفيون : إنَّ لفظها أمرٌ ؛ على تقدير لام الأمرِ ، ومَنْ جعلها على بابها ، قدَّر : وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ ، فحذف " حُكْمُ " مِن الأول ، و " أن " المصدرية من الثاني ، وهو بعيدٌ جدّاً .
و " تَرَبَّصَ " يتعدَّى بنفسَه ؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَ ، وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين :
أحدهما : أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً ، وهو الظاهرُ ، تقديرُه : يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ ، ويكونُ " ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ " على هذا منصوباً على الظرف ؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ .
والثاني : أن يكون المفعولُ هو نفسَ " ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ " أي : ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ .
وأمَّا قوله : { بِأَنْفُسِهِنَّ } [ فيحتمل وجهين ، أحدهما ، وهو الظاهرُ : أَنْ يتعلَّق ب " يَتَرَبَّصْنَ " ، ويكونَ معنى الباءِ السببية ، أي : بسبب أنفسِهنَّ ] ، وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل ، لو قيل في نظيرِه : " الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ " لم يجُز ؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك .
والثاني : أن يكونَ " بَأَنْفُسِهِنَّ " تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ ، وهو النونُ ، والباءُ زائدة في التوكيد ؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما ؛ تقولُ : " جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ " ؛ وعلى هذا : فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها ، لا يقالُ : لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير ؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ ؛ فيقال : زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ " ؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ ، فخرج بذلك عن حكم التوابع ، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره ، ويُؤيِّد ذلك قولهم : " أَحْسِنْ بِزَيْدٍ ، وَأَجْمِلْ " ، أي : به ، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين ، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ ، أو خَرَجَ عن أصل باب الفاعل ؛ فلذلك جازَ حَذْفُه ، وعن الأَخْفَش ذَكَر في " المَسَائِلِ " أنهم قالوا : " قَامُوا أَنْفُسُهُمْ " من غير تأكيدٍ ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ .
فإن قيل : القُرُوءُ : جمع كثرةٍ ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك ، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً ، وهاهنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ ، وهو " أَقْرَاء " ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ ؟ .
أوّلها : أنه لمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء ، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار .
والثاني : أنه من باب الاتساعِ ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر .
والثالث : أنَّ " قروءاً " جمعُ " قَرْءٍ " بفتح القافِ ، فلو جاء على " أَقْرَاء " لجاء على غير القياس ؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء .
والرابع وهو مذهب المُبَرِّد : أنَّ التقدير " ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ " ، فحذف " مِنْ " ، وأجاز : ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ ، أي : مِنْ حِمِيرٍ ، ومِنْ كِلاَبٍ ، وقال أبو البقاء{[3607]} : وقيل : التقديرُ " ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ " وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه ، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه .
اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق ، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً .
فإن كان أجنبيةً ، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة ، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع ، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع .
وأما المَنْكُوحة : فإن لم يكن مدخولاً بها ، لم تجب عليها العِدَّة ؛ لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب :49 ] ، وإن كانت مدخولاً بها : فإن كانت حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل ؛ لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق :4 ] ، وإن كانت حائلاً ؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ ، فعِدَّتها بالأشهرِ ؛ لقوله تعالى : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق :4 ] .
وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها ؛ فإذا كانت رقيقة ، فَعِدَّتها قَرْءان ، وإن كانت حُرَّة ، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ .
فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه ، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر ؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب ؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ : إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل ، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً ، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً ؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر{[3608]} ، وهذه الآية ليست كذلك ، فإنه خرج من عمومها خمسة أقسامٍ ، فأطلق لفظ " المُطَلَّقَات " على قسم واحدٍ .
والجواب : أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها : إنَّها مطلَّقة ، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها ؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم{[3609]} ، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل ، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء ، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه .
وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر ، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ .
فإن قيل : " يَتَرَبَّصْن " خبر والمراد منه الأمر ، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر ؟
الأول : أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر ، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود ، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار ، وعلى هذا التَّقدير : فلو مات الزَّوج ، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود ؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف ، فلما ذكره بلفظ الخبر ، زال ذلك الوهم ، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم ، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب .
الثاني : قال الزَّمخشري : التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر ، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلَّق بالمُسارعة إلى امتثاله ، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص ، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً ؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة ، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها .
فإن قيل : لو قال : " يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات " لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ ، فما الحكمة من ترك ذلك ، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة ، وجعل المُطلَّقات مبتدأ ، ثم قوله : " يتربّصن " إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات ، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ .
قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب " دَلاَئِل الإِعْجَازِ " : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم ، فقلت : زيدٌ فعل ، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك : " فَعَلَ زَيْدٌ " ؛ وذلك لأنَّ قولك : " زَيْدٌ فَعَل " قد يُستعمل في أمرين :
أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل ؛ كقولك : أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد .
والثاني : ألاَّ يكون المقصود الحصر ، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له ؛ كقولهم : " هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ " ولا يريد الحصر ، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه ؛ وذلك مثل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل :20 ] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم ، وقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [ المائدة :61 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الطويل ]
هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ *** شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا{[3610]}
والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ : أنَّكَ إذا قلت : " عَبْدُ اللهِ " فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه ، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك ، فإذا ذكرت ذلك الخبر ، قبله العقل بتشوُّق ، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق ، ونفي الشُّبهة .
فإن قيل : هلا قيل : يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ ؟
فالجواب : إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه ؛ لأن فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن ، وذلك لأَنَّ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال ، فأراد أن يقعن على أنفسهن ، ويغلبنها على الطُّموح ، ويحرِّضنها على التَّربُّص .
فإن قيل : لم لم يقل : ثلاث قروء ؛ كما يقال : ثَلاَث حِيَضٍ ؟
والجواب : أنه أتبع تذكير اللَّفظ ، ولفظ " قَرْء " مذكَّر .
والقرء في اللغة : أصله الوقت المعتاد تردده ، ومنه : قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله ، يقال : " أَقْرَأَ النَّجْمُ " ، أي : طلع أو أفل ، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّيح : قرؤها وقارئها ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ *** إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ{[3611]}
أي : لوقتها ، وقيل : أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ ، أو عكسه ، وقيل : هو من قولهم : قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ ؛ أي : جمعته ، ومنه : قرأ القرآن . وقولهم : ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ ، أي لم تجمع فيه جنيناً ؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ *** هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا{[3612]}
فعلى هذا : إذا أريد به الحيض ، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم ، وإن أريد به الطهر ، فلاجتماع الدَّم في البدن ، وهذا قول الأصمعي ، والفرَّاء ، والكسائيّ{[3613]} .
قال شهاب الدِّين : وهو غلطٌ ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء ، والقرء مهموزٌ .
وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر : هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ ، فيكون من المتواطئ ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك : إمَّا الاجتماع ، وإمَّا الوقت ، وإمَّا الخروج ، ونحو ذلك . وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها ، ويقال فيهما : أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ ، أي : حاضت أو طهرت ، وقال الأخفش : أَقْرَأَتْ أي : صارت ذات حيضٍ ، وقرأت بغير ألفٍ أي : حاضت ، وقيل : القرء ، الحيض ، مع الطهر ، وقيل : ما بين الحيضتين . والقائل بالاشتراك اللفظيِّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان ؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة .
ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى : [ الطويل ]
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ *** تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً *** لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا{[3614]}
أراد : أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه ، فيضيع أقراءهنّ ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض .
ومن مجيئه للحيض قوله : [ الرجز ]
يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ *** لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ{[3615]}
أي : طعنته فسال دمه كدم الحائض ، ويقال " قُرْء " بالضمِّ نقله الأصمعيُّ ، و " قَرْء " بالفتح نقله أبو زيدٍ ، وهما بمعنى واحد .
وقرأ الحسن{[3616]} : " ثَلاَثَةَ قَرْوٍ " بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ ؛ ووجهها : أنه أضاف العدد لاسم الجنس ، والقرو لغةٌ في القرء ، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع - : " قُرُوِّ " بتشديد الواو ، وهي كقراءة الجمهور ، إلا أنه خفَّف ، فأبدل الهمزة واواً ، وأدغم فيها الواو قبلها .
مذهب الشَّافعيِّ - رضي الله عنه - : أنها الأطهار ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السَّبعة ، ومالك وربيعة ، وأحمد في رواية .
وقال عليٌّ ، وعمر ، وابن مسعود : هي الحيض ؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأحمد في رواية رضي الله عنهم .
وفائدة الخلاف : أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر ، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر ، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً ، وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة ، انقضت عدَّتها ، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة ، انقضت عدَّتها .
وعند أبي حنيفة : ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة ، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض ، لا يحكم بانقضاء عدَّتها ، ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض ، تنقضي عدَّتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقلِّ الحيض ، لم تنقض عدَّتها .
أولها : قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق :1 ] أي : في وقت عدَّتهن ؛ كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ الأنبياء :47 ] ، أي : في يوم القيامة ، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه ؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض .
أجاب صاحب " الكَشَّاف " بأن معنى الآية : مستقبلات لعدَّتهن كما يقال : لثلاث بقين من الشَّهر ، يريد : مستقبلاً لثلاث .
قال ابن الخطيب{[3617]} : وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رضي الله عنه - لأن قوله : " لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ " معناه : لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه ، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر ، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة ، وهو المطلوب .
وثانيها : روي عن عائشة - رضي الله عنها - ؛ أنها قالت : " هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ " {[3618]} .
قال الشَّافعي : والنساء بهذا أعلم ؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء .
وثالثها : وهو ما تقدَّم من أن " القرْءَ " عبارةٌ عن الجمع ، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر ؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن .
فإن قيل : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم ؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم .
قلنا : لا يجتمع الْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم ، بل ينفصل قطرةً قطرةً ، وأمَّا وقت الطُّهر ، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم ؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة .
ورابعها : أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات ، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه ، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار ؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض ، وإذا كان كذلك ، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية ، واطرحنا الأكثر ؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع .
أحدها : أنَّ الأقراء في اللُّغة ، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض ؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض ؛ لما روي أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك " {[3619]} والمراد أيَّام الحَيْضِ .
وثانيها : ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض .
وثالثها : أنا إذا قلنا : بأن الأقراء هي الحيض ، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها ؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة ، ومن قال : إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث ؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً ، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة .
أجاب الشَّافعي بأن قال : قال الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة :197 ] والأشهر جمع ، وأقلُّه ثلاثة ، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث ، وذلك شوَّال ، وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة ، هكذا هاهنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث .
أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين{[3620]} .
الأول : أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل ، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ .
والثاني : أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً ، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة ، ولا كذلك أشهر الحجِّ ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ ، فكأنَّه قيل : هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق ، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص ، ولا كذلك قوله : " أَشْهُر " ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة ؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع{[3621]} ، ولا يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس .
الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة ؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر ، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة .
واعتذروا عنه : بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة ، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض ، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر ، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة .
ونحن نقول : لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية : يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران ، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق ، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً ، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه .
الوجه الثاني في الجواب : أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر ، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً ، وعلى هذا التَّقدير ؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء .
ورابعها : أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض ؛ قال : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق :4 ] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار .
وأيضاً : لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء ، والبدل يعتبر بتمامها ؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها ، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل ، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض ، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ .
وخامسها : قوله - عليه الصَّلاة والسلام - : " طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " {[3622]} وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة ، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض .
وسادسها : أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض ، فكذا العدَّة ؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم ، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر ؛ فوجب أن يكون هو المعتبر .
وسابعها : إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ ، وتغليبٌ لجانب الحرمة ؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطُّهر ، وطعنت في الحيضة الثَّالثة ، فإن جعلنا القرء هو الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها ، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر ، فحينئذٍ يجوز تزويجها ، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ{[3623]} " ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وهذا أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ " {[3624]} .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ } الجارُّ متعلَّقٌ ب " يَحِلُّ " واللام للتبليغ ، كهي في " قُلْتُ لَكَ " .
قوله : { مَا خَلَقَ اللهُ } في " مَا " وجهان :
أظهرهما : أنَّها موصولة بمعنى " الَّذِي " .
والثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، وعلى كلا التقديرين ، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط ، والتقدير : ما خلقه ، و " مَا " يجوز أن يراد بها الجنين ، وهو في حكم غير العاقل ، فلذلك أوقعت عليه " مَا " وأن يراد بها دم الحيض .
قوله : { فِي أَرْحَامِهِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب " خَلَقَ " .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ على أنه حالٌ من عائد " مَا " المحذوف ، التقدير : ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرةٌ ؛ قال أبو البقاء{[3625]} : " لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ " ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ{[3626]} : " في أَرْحَامِهُنَّ " و " بِرَدِّهُنَّ " بضمِّ هاء الكناية ، وقد تقدَّم أنه الأصل ، وأنه لغة الحجاز ، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة .
قوله : " إِن كُنَّ " هذا شرطٌ ، وفي جوابه المذهبان المشهوران : إمَّا محذوفٌ ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم ؛ لتقوى الدلالة عليه ، أي : إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر ، فلا يحلُّ أن يكتمن ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ ، وقيل : " إنْ " بمعنى " إِذْ " ، وهو ضعيفٌ .
فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها
اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء ، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال ، جعلت المرأة أمينة على العدَّة ، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة ؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة ، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة ، وهو أقلُّ الحيض ، ثم طهرت خَمْسَةَ عَشَر يوماً ، وهو أقَلُّ الطُّهْر ، ثم حاضَت يوماً وليلةً ، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً ، ثم رَأَتِ الدَّمَ ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها ؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه ، قبل قولها ، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها ؛ لأنها أمينة عليه .
قال القرطبي{[3627]} : ومعنى النَّهي عن الكتمان : النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه ، فإذا قالت المطلَّقة : حضتُ وهي لم تحِض ، ذهبت بحقِّه في الارتجاع ، وإذا قالت : لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه ، فأضرَّت به ، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه ، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل ؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع .
قال قتادة : كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد ؛ ففي ذلك نزلت الآية{[3628]} .
اختلف المفسِّرون في قوله : { مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } :
فقيل : هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً ، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها ؛ أمّا الحبل ؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء ؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل ، فإذا كتمت الحمل ، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج ، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر ، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحمل ، وأما كتمان الحيض ، فقد يكون غرضها إذا كانت من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج ، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات ، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين .
وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هو الحيض{[3629]} فقط ؛ لقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ } [ آل عمران :6 ] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه ، وحمل قوله - تعالى - : { مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } على الولد الذي هو شريف ، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ .
وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها ، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح ، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ ، وقيل : هو الحيض ؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر " الأَقْرَاءِ " ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل .
وأجيب : بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه ، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم ، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم .
وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ليس المراد : أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة ، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم : " إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي " ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء ؛ فهو كقوله في الشَّهادة : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة :283 ] ، وقوله :
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ } [ البقرة :283 ] .
قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ } الجمهور على رفع تاء " بُعُولَتُهُنَّ " وسكَّنها{[3630]} مسلمة بن محاربٍ{[3631]} ، وذلك لتوالي الحركات ، فخُفِّف ، ونظيره قراءة{[3632]} :
{ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف :80 ] بسكون اللام حكاها أبو زيد ، وحكى أبو عمرو : أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من " يُعَلِّمُهُمُ " ونحوه ، وقيل : أجرى ذلك مجرى " عَضُدٍ ، وعَجُزٍ " ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وقد تقدَّم ذلك .
و { أَحَقُّ } خبرٌ عن " بُعُولَتُهُنَّ " وهو بمعنى حقيقون ؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا ؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة ، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك ، حتى لو أبت هي الرَّجعة ، لم يعتدَّ بذلك .
وقال بعضهم : هي على بابها ؛ لأنه تعالى قال : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فكان تقدير الآية : فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر ، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها ؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر ؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها .
وأيضاً : فإنَّها إذا كانت معتدَّة ، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح ، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج ، جاز أن يقول : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ } حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة .
أحدهما : إنه جمع " بَعْل " كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة ، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس ، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كُعُوبة ، ولا في كَلْب : كلابة .
والبعل زوجُ المَرْأةِ ؛ قالوا : وسُمِّي بذلك على المستعلي ، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه . ويقال : بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ ؛ كمنع يمنعُ . ويشترك فيه الزَّوجان ؛ فيقال للمرأة : بعلة ؛ كما يقال لها : زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم ، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان ، وأصل البعل : السَّيِّد المالِك فيما نقل ، يقال : من بعلُ هذه النَّاقة ؟ كما يقال من ربُّها ؟ وبعل : اسم صنم ، كانوا يتَّخذونه ربّاً ؛ قال تعالى : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [ الصافات :125 ] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد .
الثاني : أنّ البعولة مصدر ، يقال : بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً ، إذا صَارَ بَعْلاً ، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ : إذا جَامَعَهَا ؛ ومنه الحديث : أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق : " إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ " {[3633]} ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها ، ومنه الحديث : " إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن " .
قوله : { بِرَدِّهِنَّ } متعلِّقٌ ب " أَحَقّ " . وقوله " فِي ذَلِكَ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّقٌ أيضاً ب " أَحَقّ " ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة ، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة ، وليس المعنى : أنه أحقُّ أن يردَّها في العدَّة ، وإنما يردُّها في النكاح ، أو إلى النكاح .
والثاني : أن يتعلَّق بالردِّ ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح ، قاله أبو البقاء{[3634]} .
والضمير في " بُعُولَتِهِنَّ " عائدٌ على بعض المطلَّقات ، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً ، وقال أبو حيَّان : " والأولَى عندي : أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم ، أي : وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ " .
ومعنى الردّ هنا : الرُّجوع ؛ قال - تعالى - : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي } [ الكهف :36 ] ، وقال في موضع آخر : { وَلَئِن رُّجِعْتُ } [ فصلت :50 ] .
فإن قيل : ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة ، ما دامت في العِدَّة ؟
فالجواب : أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة ، فإنَّها ما دامت في العدَّة ، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج ، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً ، لاسيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة ، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان :
أحدهما : ردّها من التَّربُّص إلى خلافه .
والثاني : ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ .
قوله : { إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً } فالمعنى : أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة ، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة ؛ ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة :231 ] .
والسَّبب في ذلك : أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها ، فنهوا عن ذلك{[3635]} ، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة .
فإن قيل : الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة ؟
فالجواب : أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها ، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها ؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة ، فإن راجعها لقصد المضارَّة ، استحقَّ الإثم .
نقل القرطبي{[3636]} عن مالك ، قال : إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها ، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد ، فهي رجعةٌ ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى{[3637]} " فإن وطئَ في العدَّة ، لا ينوي به الرَّجعة ؛ فقال مالكٌ : يراجع في العدَّة ، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد .
قال سعيد بن المسيَّب ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، والزُّهري ، وعطاء ، والثَّوري : إذا جامعها فقد راجعها{[3638]} .
من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة ، كان آثماً وليس بمراجعٍ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها ، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ ، فهي رجعة ، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ .
قال أحمد : ولها التَّزيُّن لزوجها ، والتَّشرُّف ، وله الخلوة والسَّفر بها .
وقال مالك : لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن ، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها .
وقال ابن القاسم : رجع مالك عن ذلك .
قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ } خبرٌ مقدَّمٌ ، فهو متعلِّق بمحذوف ، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل ، وهذا من بديع الكلام ، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره ، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول ، وأصل التركيب : " وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ " ، فحذف " عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ " لإثباتِ نظيره ، وهو " عَلَيْهِنَّ " ، وحذفت " لأَزْوَاجِهِنَّ " لإثبات نظيره ، وهو " لَهُنَّ " .
قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بما تعلَّق به " لَهُنَّ " من الاستقرار ، أي : استقرَّ لهُنَّ بالمعروف .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " مِثْل " ؛ لأنَّ " مِثْل " لا يتعرَّفُ بالإضافة ؛ فعلى الأوَّل : هو في محلِّ نصبٍ ؛ وعلى الثاني : هو في محلِّ رفعٍ .
قوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ " لِلرِّجَالِ " خبرٌ مقدَّمٌ ، و " دَرَجَةٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ ، و " عَلَيهِنَّ " فيه وجهان على هذا التقدير : إمَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به " لِلرِّجَالِ " ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " دَرَجَةٌ " مقدَّماً عليها ؛ لأنه كان صفةً في الأصل ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
والثاني : أن يكون " عَلَيْهِنَّ " هو الخبر ، و " للرجال " حال من " دَرَجَةٌ " ؛ لأنه يجوز أن يكون صفةٌ لها في الأصل ، ولكنَّ هذا ضعيفٌ ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ ؛ لأنَّ " عَلَيْهِنَّ " حينئذٍ هو العالم فيها ؛ لوقوعه خبراً . على أنَّ بعضهم قال : متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً ، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ ، وهذا من ذاك ، هذا معنى قول أبي البقاء{[3639]} . وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة ، فهي نظير : " قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ " ، قال : وهذا ممنوعٌ ، لا ضَعِيفٌ ؛ كما زعم بعضهم ، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة ، بل تتوسَّط ؛ نحو : " زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ " ، قال : " فأبو الحسن يُجيزُهَا ، وغيره يمنعها " . و " الرَّجُلُ " مأخوذ من الرُّجلة ، أي : القوَّة ، وهو أرجل الرَّجلين ، أي : أقواهما وفرس رَجِيلٌ : قويٌّ على المَشي ، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي ، وارتجل الكلام ، أي : قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة ، وترجَّل النَّهار : قوي ضياؤه .
و " الدَّرَجَة " هي المنزلة ، وأصلها : من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً ، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته ، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن ، أي : فنوا ، ومعناه : أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً ، والمدْرَجة : قَارِعَةُ الطَّريق ؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل ، والدَّرجة : المنزلة من منازل الجنَّة ، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها ، والدَّرجُ : ما يرتقي عليها ، والدَّرك ما يهوى فيها .
لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضَّرر إليها ، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر .
روي عن ابن عبَّاس ، قال : إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي ؛ لقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ{[3640]} } .
وقال بعضهم : يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها ، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له .
وقيل : لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة ، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لصدر الآية .
وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين :
الأول : أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور : في كمال العقل ، وفي الدِّية ، وفي الميراث ، وفي القيمة ، وفي صلاحية الإمامة{[3641]} ، والقضاء{[3642]} ، والشَّهادة ، وللزَّوج أن يتزوَّج عليها ويتسرَّى ، وليس لها ذلك مع الزَّوج ، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت ، وليس لها ذلك .
الوجه الثاني : أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها من مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخدمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة ؛ كما قال - تعالى - : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء :34 ] ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللهِ ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا{[3643]} " وإذا كان كذلك ، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ " {[3644]} ، وفي خبرٍ آخر : " اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن : اليتيمِ والمَرْأَةِ " {[3645]} .
ثم قال : { وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي : غالبٌ لا يمنع ، مصيبٌ في أحكامه .