اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

قوله تعالى : " وَإِذَا طَلَّقْتُمُ " : شرطٌ ، جوابه " فَأَمْسِكُوهُنَّ " ، وقوله : " فَبَلَغْنَ " عطفٌ على فعل الشرط ، والبلوغ : الوصول إلى الشيء : بلغه يبلغه بلوغاً ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ *** دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ{[3709]}

ومنه : البلغة ، والبلاغ : اسم لما يتبلَّغ به .

قوله تعالى : " بمعروفٍ " في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبها : إمَّا الفاعل أي : مصاحبين للمعروف ، أو المفعول ، أي : مصاحباتٍ للمعروف .

قوله : " ضِرَاراً " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الضِّرار .

والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، أي : حال كونكم مضارِّين لهنَّ .

قوله : " لِّتَعْتَدُواْ " هذه لام العلّة ، أي : لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن ، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى ، وتكونوا معتدين ؛ لقصدكم تلك المعصية .

وأجاز أبو البقاء{[3710]} : أن تكون لام العاقبة ، أي : الصيرورة ، كقوله : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص :8 ] ، وفي متعلقها وجهان :

أحدهما : أنه " لاَ تُمْسِكُوهُنَّ " .

والثاني : أنه المصدرُ ، إنْ قلنا : إنه حالٌ ، وإنْ قُلْنَا : إنه مفعولٌ من أجله ، تعلَّقت به فقط ؛ وتكون علةً للعلة ؛ كما تقول : " ضربتُ ابني ؛ تأديباً ؛ لينتفع " ، فالتأديب علةٌ للضرب ، والانتفاع علةٌ للتأديب ، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب " لا تُمْسِكُوهُنَّ " .

و " تَعْتَدُوا " منصوبٌ بإضمار " أنْ " وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام ، كما تقدَّم تقريره ، وأصل " تَعْتَدُوا " : تَعْتَدِيُوا ، فأُعِلَّ كنظائره .

قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أدغم أبو الحارث{[3711]} ، عن الكسائي ، اللام في الذال ، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية ، وهي في سبعة مواضع في القرآن : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة :331 ] في موضعين ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ } [ آل عمران :28 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً } [ النساء :30 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } [ النساء :114 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان :68 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون :9 ] . وجاز لتقارب مخرجيهما ، واشتراكهما في : الانفتاح ، والاستفال ، والجهر .

وتحرَّز من غير المجزوم نحو : يفعل ذلك . وقد طعن قومٌ على هذه الرواية ، فقالوا : لا تصحُّ عن الكسائي ؛ لأنها تخالف أصوله ، وهذا غير صواب .

فصل في سبب النزول

هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى : ثابت بن يسارٍ ، طلّق امرأته ، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها ، راجعها ، ثمَّ طلَّقها ؛ يقصد مضارَّتها{[3712]} .

فإن قيل : ذكر هذه الآية بعد قوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة :229 ] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ ، في موضوعٍ واحدٍ ، من غير زيادة فائدةٍ ، وهو لا يجوز ؟ !

فالجواب : أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة ، فالسؤال ساقطٌ عنهم ؛ لأنهم حملوا قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة :229 ] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ ، وإنَّما المشروع هو التفريق ، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه في بيان كيفية المراجعة .

وأمَّا على قول أصحاب الشافعي ، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة ، فلهم أن يقولوا : إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى ؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ، ما ليس في غيرها ، وهاهنا كذلك ؛ لأن قوله : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة :229 ] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدَّة العدَّة من أحد هذين الأمرين ، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة ، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله ؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء ، أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل ؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة ، حسن إعادة حكم هذه الصورة ، تنبيهاً على أنَّ هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة ، وأولى بأن يحترز المكلف عنها .

فصل في معنى الإمساك بالمعروف

قال القرطبيُّ{[3713]} : الإمساك بالمعروف ، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها ؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء : إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة ، أن يطلقها ، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف ، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها ؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، ضرراً ، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وأبو ثور ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة .

وقال سعيد بن المسيَّب : إنَّ ذلك سنةٌ ، ورواه أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقالت طائفةٌ : لا يفرَّق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلّق النفقة بذمَّته ، بحكم الحاكم ؛ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة :280 ] .

وحجَّة الأوَّلين الآية ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي " رواه البخاري في " صحيحه " {[3714]} .

فصل

قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إشارةٌ إلى المراجعة ، واختلف العلماء في كيفيتها ؛ فقال الشَّافعيُّ : لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد : تصحُّ بالوطء .

حجة الشافعي : " أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته ، وهي حائض ؛ فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا " {[3715]} فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال . والوطء في زمن الحيض لا يجوز . وقد يجاب عن هذا ؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء ، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ ، وفي صورة بالقول .

وحجَّة أبي حنيفة ، قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أمرٌ بمجرد الإمساك ، والوطء إمساكٌ ، فوجب أن يكون كافياً .

فإن قيل : إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل ، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة ، لا يثبت حقَّ المراجعة .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد : " قد بلغنا " ، وقول الرجل لصاحبه : " إذا بلغتَ مكَّةَ ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى " يريد مشارفة البلوغ ، لا نفس البلوغ ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر .

الثاني : الأَجَل اسمٌ للزمان ، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه ، بحيث إذا مات ، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا ، فلا حاجة إلى المجاز

فإن قيل : لا فرق بين قوله : { أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، وبين قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه{[3716]} ، فما فائدة التكرار ؟

فالجواب : الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً ؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات ؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول كلَّ الأوقات ، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال ، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل ، فلما قال : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } انْدَفَعَتْ الشبهات ، وزالت الاحتمالات .

فصل في بيان معنى الضرار

و " الضرار " : هو المضارَّةُ ؛ قال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } [ التوبة :107 ] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة ؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً :{[3717]}

أحدها : ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ ، فأكثر .

ثانيها : " الضرارُ " سوء العشرة .

وثالثها : تضييق النفقة ، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال ؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها .

قوله تعالى : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فيه وجوه :

أحدها : ظلم نفسه ؛ بتعريضها للعذاب .

وثانيها : ظلم نفسه ؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين :

أمَّا منافع الدنيا : فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه ، ولا معاملته .

وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل ، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى .

قوله : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً } فيه وجوه :

أحدها : أنَّ من أمر بشيء ، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين ، يقال : إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به ؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة ، والرَّجعة ، والخلع ، وترك المضارَّة ، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها ، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة ، وغيرهم .

وثانيها : ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى ، ولا تتهاونوا بها .

وثالثها : قال أبو الدَّرداء : كان الرجل يطلِّق في الجاهلية ، ويقول : " طَلَّقْتُ ، وَأَنَا لاَعِبٌ " ويعتق ، وينكح ، ويقول مثل ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " مَنْ طَلَّقَ ، أَوْ حَرَّرَ ، أَوْ نَكَحَ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ " {[3718]} .

وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ " {[3719]} .

ورابعها : قال عطاءٌ : معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه ، أو على غيره ، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى{[3720]} .

وقال مالكٌ في " الموطأ " : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ : إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ ، فماذا ترى ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ ؛ وسَبْعٌ وتسعون اتخذت آياتِ الله هُزُواً{[3721]} .

والأَقربُ هو الأَوَّلُ ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ ، فيكون تهدِيداً عليها ، لا على غيرها . ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد ، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين ، فقال : { واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم } أي : بالإسلام ، وبيان الأَحكام . ويجوز في " عليكم " وجهان :

أحدهما : أن يتعلَّق بنفسِ " النعمة " ، إن أريدَ بها الإِنعامُ ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله : [ الطويل ]

فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ *** عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ{[3722]}

فأعملَ " رهبةٌ " في " عِقَابَكَ " ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها ، نحو : ضربٌ وضَرْبَةٌ ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله : [ الطويل ]

يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ *** بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ{[3723]}

بأنَّ المَلاَ ، وهو السرابُ ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ .

والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من " نِعْمَة " إنْ أريد بها المُنْعَمُ به ، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً ؛ إذ هي فاعلةٌ به ، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً .

قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } يجوزُ في " ما " وجهان :

أحدهما : أن تكونَ في محلِّ نصب ؛ عطفاً على " نعمة " ، أي : اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم ، فعلى هذا يكون في قوله : " يَعِظُكُم " حالاً ، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنه الفاعلُ : في " أنزل " وهو اسمُ الله تعالى ، أي : أنزله واعظاً به لكم .

والثاني : أنه " ما " الموصولةُ ، والعاملُ في الحالِ : اذكروا .

والثالث : أنه العائد على " ما " المحذوفُ ، أي : وما أنزلهُ موعوظاً به ، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ " أَنْزَلَ " .

والثاني : من وَجْهي " ما " : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء ، ويكونَ " يَعِظُكُم " على هذا في محل رفعٍ ؛ خبراً لهذا المبتدإِ ، أي : والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به . وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ .

قوله : " عَلَيْكُمْ " متعلِّقٌ ب " أَنْزَلَ " و " من الكتابِ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ ، وفي صاحبِهِ وجهان :

أحدهما : أنه " ما " الموصولةُ .

والثاني : أنه عائدُها المحذوفُ ، إذ التقديرُ : أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ .

و " مِنْ " يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةً ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك .

والضمير في " به " يعودُ على " ما " الموصولةِ .

والمرادُ من " الكِتابِ " : القرآنُ ، ومن " الحِكْمَةِ " : " السُّنَّةُ " . يَعظُكُمْ بِهِ أي : يخوفكم به ، ثم قال : { وَاتَّقُواْ اللهَ } أي : في أَوَامرِه ، ولا تُخالِفُوه في نواهيه ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .


[3709]:- ينظر: ديوانه (193)، البحر 2/251، الدر المصون 1/564.
[3710]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/96.
[3711]:- الليث بن خالد روى عنه سلمة بن عاصم توفي سنة 240هـ ينظر غاية النهاية 2/24.
[3712]:- تقدم.
[3713]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/ 102.
[3714]:- أخرجه البخاري (9/410) كتاب "النفقات": باب وجوب النفقة حديث رقم [5355] من حديث أبي هريرة.
[3715]:- أخرجه البخاري (7/73) كتاب الطلاق باب إذا طلقت الحائض رقم (5252) ومسلم (4/180) ومالك (2/ 576) رقم (53) والشافعي في "مسنده" (1630) وأبو داود (2179، 2180) والنسائي (2/94) والدارمي (2/160) وابن أبي شيبة (7/75) وابن ماجه (2019) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/31) وابن الجارود (734) والبيهقي (7/323) وأحمد (2/6، 54، 63، 102) من طرق عن نافع عن ابن عمر.
[3716]:- وقبل ذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة يجدر بنا أن نبين أن عبارات القوم قد اختلفت في التعبير عنها: فمنهم من عبر عنها بقوله: "الأمر بالشيء نهي عن ضده، أو يستلزم النهي عن ضده" ومنهم من عبر بقوله: "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه". ولكن نستطيع الموازنة بين هاتين العبارتين بذكر الفرق بين الضد والنقيض لورودهما فيهما. وبيانه أن كل واجب كالقعود مثلا المطلوب بقولنا اقعد له أمران منافيان له أحدهما يسمى ضدا والآخر يسمى نقيضا، وكل منهما يغاير الآخر لأن النقيض ينافي الواجب بذاته، وهو عدم القعود حيث إن النقيضين هما الأمران اللذان أحدهما وجودي، والآخر عدمي لا يجتمعان ولا يرتفعان كالقعود وعدمه في المثال الذي قدمنا، بخلاف الضد كالقيام فإنه ينافيه بالعرض أي باعتبار أنه يحقق المنافي بذاته وهو النقيض لأن الضدين هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان،وقد يرتفعان كالقعود والقيام فإنهما لا يجتمعان في شخص واحد في وقت واحد، وقد يرتفعان ويأتي بدلهما الاضطجاع مثلا إلا أن كل واحد من أضداد القعود يحقق النقيض وهو عدم القعود؛ لأنه فرد من أفراده فلم يكن التنافي بين الواجب وضده ذاتيا، بل لأن أحدهما يقتضي نقيض الآخر الذي ينافيه بالذات، وهذا إذا كان النقيض له أفراد هي أضداد الواجب يحققه كل واحد منها. أما إذا لم يكن له إلا فرد واحد هو ضد الواجب ولا يتحقق النقيض إلا به اعتبر ذلك الضد مساويا للنقيض كالحركة والسكون فإن السكون يساوي عدم الحركة لأن عدم الحركة لا يتحقق إلا بالسكون وأخذ مع ضده حكم النقيض فلا يجتمعان ولا يرتفعان إذ لا تجتمع حركة وسكون في وقت واحد في شيء واحد ولا يرتفعان كذلك، بل لا بد أن يكون الشيء متصفا بأحدهما ضرورة أن الشيء الواحد لا يخلو عن حركة أو سكون. والمدقق في هاتين العبارتين يجد بينهما ثلاثة فروق. 1-أن التعبير بقولهم: "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه" لا يفيد إلا حكم النقيض في الوجوب. أما حكمه في الندب فلا، بخلاف التعبير بقولهم "الأمر بالشيء الخ" فإنه يفيد حكم الضد فيهما لأن الأمر بالشيء بصيغته عند عدم القرينة التي تصرف عن الوجوب إلى الندب يدل على الوجوب ومع القرينة الصارفة يدل على الندب. فالتعبير بالأمر يتناول الوجوب والندب، والتعبير بالنهي يتناول التحريم والكراهة لأن النهي إن كان جازما فهو التحريم، وإن كان غير جازم فهو الكراهة. ومن هذا المنطلق يكون الأمر بالشيء دالا على تحريم الضد إن كان الأمر للوجوب، ودالا على كراهته إن كان الأمر للندب فيكون التعبير بقولهم: "الأمر بالشيء نهي عن ضده" مفيدا لحكم الضد في النوعين: 2-أن التعبير بقولهم "وجوب الشيء الخ" فيه بيان لحكم النقيض في الوجوب مطلقا أي: سواء كان الوجوب مأخوذا من صيغة الأمر، أو مأخوذا من غيرها مثل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والقياس وغير ذلك، بخلاف التعبير بقولهم "الأمر بالشيء الخ" فإنه لا يفيد إلا حكم الضد في الوجوب المأخوذ من صيغة الأمر دون حكم الضد في الوجوب المستفاد من غيرها كما سبق. 3- أن التعبير بقولهم "الأمر بالشيء نهي عن ضده الخ" يفيد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ضد المأمور به وليس نقيضه، أما التعبير بقولهم: "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه" فإنه يفيد أن نقيض الواجب موضع خلاف بينهم، وأن من العلماء من يقول "بأن الأمر بالشيء ليس دالا على النهي عن نقيضه" وهو باطل لأن الإجماع منعقد على أن نقيض الواجب منهي عنه؛ لأن إيجاب الشيء هو طلبه مع المنع من تركه والمنع من الترك وهو النهي عن الترك، والترك هو النقيض، فيكون النقيض منهيا عنه. فالدال على الإيجاب وهو الأمر دال على النهي عن النقيض لأنه جزؤه ضرورة أن الدال على الكل يكون دالا على الجزء بطريق التضمن. وإذا كان الأمر كذلك تعين أن يكون الخلاف في الضد فقط، ووجب أن يكون التعبير عن ذلك النزاع بما يدل صراحة على محله، والذي يفيد ذلك هو العبارة الأولى لا الثانية. ويرى أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني في أوله أقواله إلى أن الأمر بشيء معين إيجابا أو ندبا نهي عن ضده الوجودي تحريما أو كراهة سواء كان الضد واحدا كالتحرك بالنسبة إلى السكون المأمور به في قول القائل اسكن، أو أكثر كالقيام وغيره بالنسبة إلى القعود المطلوب للآمر بقوله: اقعد. ومعنى كونه نهيا أن الطلب واحد، ولكنه بالنسبة إلى السكون في مثالنا أمر، وبالنسبة إلى التحرك نهي كما يكون الشيء الواحد بالنسبة إلى شيء قريبا وإلى آخر بعيدا. ومثل الشيء المعين في ذلك الشيء الواحد المبهم من أشياء معينة بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الذي يدور بينها فإن الأمر به نهي عن ضده الذي هو ما عداها بخلافه بالنظر إلى فرد المعين فليس الأمر به نهيا عن ضده منها. وذهب القاضي الباقلاني في آخر أقواله والإمام الرازي وسيف الدين الآمدي وأيضا القاضي عبد الجبار وأبو الحسين من المعتزلة إلى أن الأمر بشيء معين مطلقا يدل على النهي عن ضده استلزاما. فالأمر بالسكون يستلزم النهي عن التحرك أي طلب الكف عنه. وذهب أبو المعالي الجويني والغزالي إلى أن الأمر بشيء معين مطلقا لا يدل على النهي عن ضده لا مطابقة ولا التزاما. وذهب بعض العلماء إلى أن أمر الإيجاب يدل على النهي عن ضده التزاما دون أمر الندب فلا يدل على النهي عن ضده لا مطابقة ولا التزاما. والذي نختاره من هذه الآراء: أن الأمر بالشيء إيجابا أو ندبا يستلزم النهي عن ضده تحريما أو كراهة. ينظر المحصول (1/2/334) البرهان (1/250-252) اللمع (11) التبصرة 189 المنخول 114 المستصفى 1/81 الإحكام للآمدي 2/159، شرح الكواكب المنير 3/51 المسودة ص (49) أصول السرخسي 1/94 شرح تنقيح الفصول ص 35 المعتمد 1/106 جمع الجوامع 1/386 تيسير التحرير 1/463 فواتح الرحموت 1/97 القواعد والفوائد الأصولية ص 183 التمهيد للإسنوي 94-95 شرح العضد 3/85 كشف الأسرار 2/328 التلويح على التوضيح 2/ 238-239 إرشاد الفحول (101) روضة الناظر ص 25 المدخل ص (102).
[3717]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/94.
[3718]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/509) وعزاه لابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه في تفسيره عن أبي الدرداء.
[3719]:- أخرجه أبو داود (2194) والترمذي (1/223) وابن ماجه (2039) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/58) وابن الجارود (712) والحاكم (2/198) والبغوي في "شرح السنة" (3/46) عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب من ثقات المدنيين ورده الذهبي بقوله: قلت: فيه لين.
[3720]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/95.
[3721]:- ذكره مالك في الموطأ (2/550) كتاب الطلاق رقم (3).
[3722]:- البيت من شواهد الكتاب 1/189، المفصل لابن يعيش 6/61، حاشية يس 2/63، الدر المصون 1/465.
[3723]:- البيت ينظر: الهمع 2/92، العيني 3/527، حاشية يس 1/316، الدرر 2/122، الدر المصون 1/565.