أي : من بعد الطلاق الثالث ، فلمَّا قطعت " بعدُ " عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ ؛ لما تقدَّم تقريره . و " له " و " مِنْ بعد " ، و " حتى " ثلاثتها متعلقةٌ ب " يَحِلُّ " . ومعنى " مِنْ " : ابتداء الغاية ، واللام للتَّبليغ ، وحتَّى للتعليل ، كذا قال أبو حيَّان{[3687]} ، قال شهاب الدِّين : والظَّاهر أنها للغاية ؛ لأنَّ المعنى على ذلك ، أي : يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره ، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً ، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام .
و " غيرَه " صفةٌ ل " زوجاً " ، وإن كان نكرةً ، لأنَّ " غَيْرَ " وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة ؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل .
و " زَوْجاً " هل هو للتقييد أو للتوطئة ؟ وينبني على ذلك فائدةٌ ، وهي أنه إن كان للتقييد : فلو كانت المرأة أمةً ، وطلَّقها زوجها ، ووطئها سيِّدها ، لم تحلَّ للأول ؛ لأنه ليس بزوجٍ ، وإن كانت للتوطئة حلَّت ؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى ، كأنه قيل : حتى تنكح غيره ، وإنَّما أتى بلفظ " زَوْج " ؛ لأنه الغالبُ .
فإن قيل : ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً } ؟
إحداهما : ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء ، لا مجرَّد العقد ؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح ، بخلاف الرجل ؛ فإنه يطلِّق عند العقد .
الثانية : لأنَّه أفصح ، لكونه أوجز .
فإن قيل : فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " {[3688]} وإنما أراد العقد .
فالجواب : أن هذا يدلُّ لنا ؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة ، والمراد به العقد ، يكون باطلاً ، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح .
قال أهل اللُّغة : النكاح في اللغة : هو الضَّمُّ والجمع ، يقال : تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ .
الذين قالوا : بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة ، قالوا : إنَّ قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } تفسيرٌ للتسريح بالإحسان .
واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ :
إمَّا أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } .
أو يتركها ؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين ، وهو المراد بقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
والثالث : أنه إذا راجعها ، وطلَّقها ثالثةً ؛ وهو المراد بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } .
فهذه الأقسام الثلاثة ؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها ؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه ، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان ، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة ، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ ؛ على سبيل التِّكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى ، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين ، كالأجنبي ، ونظم الآية : " الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره " .
فإن قيل : إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا ، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين ؟
فالجواب : أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان ؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة ، وأمَّا بعدها ، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك ، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بذكر الخلع ، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة ؛ لأنها كالخاتمة .
فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها
مذهب الجمهور : أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها ؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي :
أن تعتدَّ منه ، وتتزوَّج بغيره ، ويطأها ثم يطلِّقها ، وتعتدَّ من الآخر .
وقال سعيد بن جبيرٍ ، وسعيد بن المسيِّب : تحلُّ بمجرد العقد{[3689]} .
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء ؛ هل ثبت بالكتاب ، أو بالسنة ؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ{[3690]} : الأمران معلومان بالكتاب .
قال ابن جنّي : سألت أبا عليٍّ عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرَّقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح امرأته ، أو زوجته ، أراد المجامعة ، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح ، الذي هو الوطء ، وإذا كان كذلك فقوله : { تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ، أي : تتزوَّج بزوجٍ ، وينكحها ، أي : يجامعها{[3691]} .
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة ، وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها ، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ ، فطلقها ثلاثاً ، " قالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب ، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني ؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ ؟ لاَ ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " والمراد ب " العُسَيْلَة " : الجماع ، " فروي أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن زَوْجِي قد مَسَّنِي ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ " ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكرٍ ، فقالت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى زوجيَ الأول ؛ فإن زوجي الآخر قد مسني ؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته ، وقال لك ما قال ؛ فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكرٍ ، أتت عمر ، وقالت له مثل ذلك ، فقال : " لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ " {[3692]} .
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج ، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء ، فأما مجرد العقد ، فليس فيه نفرةٌ ، فلا يصلح جعله زاجراً .
قال بعض العلماء : إذا طلق زوجته ، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر ، فأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد ، عادت على ما بقي من طلاقها .
وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً ، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث .
قال القرطبيُّ{[3693]} : استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية ، على أنَّ المختلعة يلحقها الطلاق ؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة ، لأن " الفَاءَ " حرف تعقيبٍ ، فيبعد أن يرجع إلى قوله : " الطَّلاقُ مرَّتَانِ " ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه ، كالاستثناء .
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ{[3694]} .
قال القرطبيُّ{[3695]} : ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل ، أو نواه ، فمتى كان ذلك فسد نكاحه .
قال القرطبيُّ{[3696]} : وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها ، لا يحلّها ؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد .
قال القرطبيُّ{[3697]} : سئل سعيد بن المسيَّب ، وسليمان بن يسار ، عن رجل زوَّج عبداً له ، جاريةً له ، فطلَّقها العبد البتَّة ، ثم وهبها سيِّدها له ، هل تحل له بملك اليمين ؟
فقالا : لا تَحِلُّ له ، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره{[3698]} .
سئل ابن شهاب ، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها ، وقد كان طلقها واحدةً ؛ فقال : تحل له بملك يمينه ، ما لم يبت طلاقها ، فإن بتَّ طلاقها ، فقال : لا تحلُّ له ، حتى تنكح زوجاً غيره{[3699]} .
فإن قيل : إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً ؛ فتزوجت بعده ذمياً ، ودخل بها ، حلت للأول ؛ لأن الذِّمي زوجٌ .
قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الضمير المرفوع عائدٌ على " زوجاً " النكرة ، أي : فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني ، وأتى بلفظ " إِنْ " الشرطية دون " إذا " ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره ، من غير أن يشترط عليه ذلك ؛ لأنَّ " إذا " للمحقق وقوعه و " إِنْ " للمبهم وقوعه ، أو المتحقَّق وقوعه المبهم زمان وقوعه ؛ نحو قوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء :34 ] .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } الضمير في " عليهما " يجوز أن يعود على المرأة ، والزوج الأول المطلَّق ثلاثاً ، أي : فإن طلَّقها الثاني ، وانقضت عدَّتها منه ، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً ، ولا عليها ؛ أن يتراجعا .
وهذا يؤيد قول من قال : إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين ، فتزوجت غيره ، وأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها ؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً ، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم ، وإذا ثبت هذا الاسم ، كان رجعةً ، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها . ويجوز أن يعود عليها ، وعلى الزوج الثاني ، أي : فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني ، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة ، وهي " وانْقَضَتْ عِدَّتُها " ، وتكون الآية قد أفادت حكمين ، أحدهما : أنها لا تحلُّ للأول ؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره ، والثاني : أنه يجوز أن يراجعها الثاني ، ما دامت عدَّتها منه باقيةً ، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط ، ولم يكن للثاني عليها رجعةٌ .
وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد ؛ لأن الوطء لو كان معتبراً ، لكانت العدة واجبةً ، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة ؛ لأن " الفَاءَ " في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني ، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة :228 ] .
قوله : { أَن يَتَرَاجَعَا } ، أي : " في أَنْ " ، ففي محلِّها القولان المشهوران : قال الفراء : موضعهما نصبٌ بنزع الخافض ، وقال الكسائي ، والخليل : موضعهما خفضٌ بإضمار ، و " عليهما " خبر " لا " ، و " في أن " متعلِّقٌ بالاستقرار ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون " عليهما " متعلقاً ب " جُناح " ، والجارُّ الخبر ، لما يلزم من تنوين اسم " لا " ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً .
قوله : { إِن ظَنَّا } شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه{[3700]} لدلالة ما قبله عليه ، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد . والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين ، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ . وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين ، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين ، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ " أَنْ " الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها ، لا تقول : علمت أنَّ يقوم زيدٌ ، إنما تقول : علمت أنْ يقوم زيدٌ . والثاني من جهة المعنى : فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً .
قال أبو حيان : أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال : " علمت أنَّ يقومَ زيد " فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره ، إلاَّ أن سيبويه{[3701]} أجاز : " ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ " فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي . قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ " عَلِمَ " قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة :10 ] ، وقوله : [ الوافر ]
وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنٍّ *** وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ{[3702]}
فقوله : " علمَ حق " يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق ، وكذا قوله " غيرِ ظَنٍّ " يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن . وممَّا يدلُّ على أنَّ " عَلِمَ " التي بمعنى " ظَنَّ " تعمل في " أَنْ " الناصبة ، قول جرير : [ البسيط ]
نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إِنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا *** أَلاًّ يُدَانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ{[3703]}
ثم قال أبو حيان : " وَثَبَت بقول جرير وتجويز سيبويه أنَّ " عَلِمَ " تعمل في " أَنْ " الناصبة ، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري . وأمَّا قوله : " لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ " فليسَ كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها قال شهاب الدين : وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً ، كيف يقال في الآية : إنَّ الظن بمعنى اليقين ، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في " أَنْ " الناصبة . وقوله : " لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد " مُسَلَّمٌ ، لكن ليس هذا منها .
وقوله : " أَن يُقِيمَا " إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين ، أو الأول والثاني محذوفٌ ، على حسب المذهبين المتقدمين .
كلمة " إن " في اللغة للشرط ، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ؛ فظاهر الآية يقتضي : أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك ؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ ، أو لم يحصل ، إلاَّ أنا نقول : ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة ؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله .
قال طاوسٌ : إن ظنَّ كلُّ واحدٍ منهما ، أنه يحسن عشرة صاحبه{[3704]} .
وقيل : حدود الله : فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني .
فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته ، أو صداقها ، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه ؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها ؛ حتى يبيِّن لها . وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع ، كان عليها أن تبين .
وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه ، ولا مال له ، ولا صناعة يذكرها ، وهو كاذبٌ ، وكذلك لو كان بها علةٌ ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ ، أو جذامٍ ، أو بَرَصٍ ، أو داءٍ في الفرج ؛ لم يجز لها أن تغرَّه ، وعليها أن تبيِّن له ما بها ، كما يجب على بائع السِّلعة . " وكان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة ، فوجد بكشحها{[3705]} برصاً ؛ فردَّها ، وقال : " دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ " {[3706]} " .
فصل هل على الزوجة خدمة الزوج ؟
نقل القرطبيُّ{[3707]} عن ابن خويز منداد قال : اختلف أصحابنا : هل على الزوجة خدمة الزوج ؟
فقال بعضهم : ليس عليها خدمته ؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع ، لا الخدمة ؛ قال تعالى : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } [ النساء :34 ] .
وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ؛ فإن كانت شريفة المحلِّ ، فعليها التدبير للمنزل ، وإن كانت متوسطة الحال ، فعليها أن تفرش الفراش ، ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك ، فعليها أن تَقُمَّ البيت ، وتطبخ ، وتغسل ، وإن كانت من نساء الكرد ، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك ؛ قال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :228 ] .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } " تلكَ " إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف .
" يُبَيِّنُهَا " في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفعٍ ، خبراً بعد خبرٍ ، عند من يرى ذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال ، وصاحبها " حدود الله " والعامل فيها اسم الإشارة .
وقرئ{[3708]} : " نبيِّنها " بالنون ، ويروى عن عاصمٍ ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم ؛ للتعظيم .
فإن قيل : " تلك " إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف ؛ وقوله : " نُبَيِّنُهَا " إشارة إلى الاستقبال ، والجمع بينهما متناقضٌ !
فالجواب : أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة ، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة ، فكأنه قال : إن هذه الأحكام التي تقدمت ، هي حدود الله ، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان ، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل :44 ] .
وقيل : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ } يعني : ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب ، وبعث الرسل ؛ ليعلموا بأوامره ، وينتهوا عن نواهيه .
و " لقوم " متعلِّقٌ ب " يُبَيِّنُهَا " ، و " يعلمون " في محل خَفْض صفةً ل " قوم " ، وخص العلماء بالذكر ؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم ، وقيل : خصَّهم بالذّكر لقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَلَ } [ البقرة :98 ] وقيل : عنى به العرب ؛ لعلمهم باللسان .
وقيل : أراد من له علمٌ ، وعقلٌ ؛ كقوله : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت :43 ] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً ، عالماً بما يكلِّف .