واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو ، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً ، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً ، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام ، أو بما لا خير فيه ، أو بِما يلغى إثمه ؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام –
" إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " {[3537]} .
ومن الثاني قوله تعالى : { وَالْغَواْ فِيهِ } .
قال الفرَّاء : اللَّغا مصدر للغَيت{[3538]} .
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ " اللَّغو " في القرآن على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الشَّتيمة ؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان :72 ] ، أي : لم يجيبوهم ؛ ومثله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص :55 ] .
الثالث : بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر ؛ قال تعالى : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } [ الطور :23 ] ، أي : لا يحلف بعضهم على بعض .
والباء في " بِاللَّغْوِ " متعلِّق ب " يؤاخذكم " والباء معناها السَّببيّة ، كقوله : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت :40 ] ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } [ النحل :61 ] .
واختلف في اللَّغْوِ : فقيل : ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ ، قاله الفرَّاء ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ *** إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ{[3539]}
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ ، فنهض الفرزدق ، وقال : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ ، وأَنْشَد البيت : [ الطويل ]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ . . . *** . . .
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا *** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ{[3540]}
فقال الحسن : " ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك " ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ " لَغْوٌ " .
قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان :72 ] ، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم :62 ] ؛ وقال العجاج : [ الرجز ]
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ *** عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ{[3541]}
وقيل : ما يُطرحُ من الكلام ؛ استغناءً عنه ، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة " لَغْوٌ " ؛ قال جريرٌ : [ الوافر ]
وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً *** كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَارَا{[3542]}
وقيل : " اللَّغو " السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره ، فأَمَّا وروده في الكلام ؛ فكقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص :55 ] وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ الواقعة :25 ] ، وقوله : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت :26 ] ، { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية :11 ] وقال عليه الصّلاة والسّلام : " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " {[3543]} .
وأما قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان :72 ] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً ، وأن يكون المُرادُ : وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً ، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام ، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل .
وقيل : هو ما لا يُفهم ، من قولهم : " لَغَا الطَّائِرُ " ، أي : صوَّتَ ، واللَّغو ، ما لَهجَ به الإنسانُ ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا .
وقال الراغب{[3544]} : ولَغِيَ بكذا : أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ " لُغَة " ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا ، أي : أُولِعَ به ، وقال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ - : " ومنه اللغةُ ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ " ، وقد غَلَّطوه في ذلك .
قوله : { فِي أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بالفعلِ قبله .
الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله ؛ كقولك : " لَغَا فِي يمينه " .
الثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ ، وتعرفه من حيث المعنى ؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ ، ووصفْتَ به اللغو ، لصحَّ المعنى ، أي : اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ . وسُمِّي الحَلفُ يَميناً ؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر .
وقيل : لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء .
ذكر المفسِّرون في " اللَّغو " وجوهاً :
أحدها : قال الشَّافعيُّ وغيره : هو قول الرَّجل في عرض حديثه : " لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ " من غير قصدٍ إليهما ، وهو قول عائشة ، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة ، لِمَا رَوَت عائشة ؛ قالت : سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية : قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه : ( لاَ واللهِ ) و( بَلَى واللهِ ) أخرجه البُخاريّ{[3545]} ، ويروى عن عائشة : أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة ، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ{[3546]} .
وقال آخرون : هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس والحسن ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، والزُّهري ، والسُّدِّيّ ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة : ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة{[3547]} .
وفائدة الخلاف : أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل : " لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ " ، ويوجبها ، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان ، ثم بان أَنَّه لم يكن ، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك .
وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية ، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها ، بل يحنث ويُكَفِّر{[3548]} .
وقال مسروق : ليس عليه كفَّارة ، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان{[3549]} ؟ وقال الشَّعبيُّ : الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها{[3550]} ، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها ، فليس فيها كفَّارة ، ولو أَمرته بالكفَّارة ، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله .
هذا هو اللَّغو ؛ لأن اللَّغو هو المعصية ؛ قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } .
وقال عليٌّ : هو اليمين في الغضب ، وبه قال طاوس{[3551]} .
وقال الضَّحَّاك : اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة{[3552]} ، سُمِّيت لغواً ، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم ؛ كأنه قيل : لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم ، إِذْ كَفَّرْتُم .
وقال زيد بن أسلم : هو دُعاء الرَّجُل على نفسه ؛ كقوله : " أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا ، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً " أو يقول : هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا{[3553]} ، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به ، ولو آخَذَ اللهُ به ، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة ؛ قال تعالى : { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } [ الإسراء :11 ] ،
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } [ يونس :11 ] .
وقال القاضي{[3554]} : هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ ؛ لقوله تعالى بعد ذلك : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : يؤاخذكم إذا تعمَّدتم ، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو ، حُجَّة الشَّافعي رضي الله عنه ما روت عائشة رضي الله عنها ؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ : كَلاَّ واللهِ ، بَلَى واللهِ ، لاَ وَاللهِ " {[3555]} .
وروي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ينتضلون ، ومعه رجلٌ من أصحابه ، فرمى رجلٌ من القوم ، فقال : أصبت واللهِ ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام : حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ ، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - : " كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَلاَ عُقُوبَةَ " {[3556]} .
وأيضاً فقوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ ، ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك ، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له ، ويكُون معناه : ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله ، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة .
وأيضاً : فَإِنَّه قال قبل هذه الآية : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } وتقدَّم أنَّ معناه : النَّهي عن كثرة الحلفِ ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله ، وبلى والله ، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين ، فلمَّا ذكرهم اللهُ - تعالى - عقيب قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة ، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين .
الأول : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام - : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ " {[3557]} ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً ، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل .
الثاني : أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق ، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ ، وبَلَى والله ، إذا حصل الحَنثُ .
ويؤيِّد ما قلناه : أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة ؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ *** تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ{[3558]}
أي : بالقوَّة ، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين ، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية ، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية البتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل ، فإنه قابلٌ للتَّقوية .
قوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم } وقعت هنا " لَكِنْ " بين نقيضين ؛ باعتبار وجود اليمين ؛ لأنَّها لا تَخْلُو : إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ : بل جرتْ على اللسانِ ، وهي اللَّغْوُ ، وإمَّا أن يقصِدَها ، وهي المنعقدةُ .
قوله تعالى : { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبله ، والباءُ للسببية كما تقدَّم ، و " مَا " يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر ، وهو اللَّغو ، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ ، ولكن بالكسب .
والثاني : أنها بمعنى " الذي " ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : كَسَبَتْهُ ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى " الَّذِي " أكثرُ منها مصدريةً .
والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، والعائدُ أيضاً محذوفٌ ، وهو ضعيفٌ ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ ، تقديره : ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه .
قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين ، وكَسبُ القَلْب : العقدُ والنِّيَّة .
وقال زيد بن أسلم في قوله : " وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " هو في الرَّجل يقول : هو مشركٌ إن فعل أي : هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه .
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ ، أو صفةٍ من صفاته ، فاليمين باللهِ أَنْ يقول : والَّذي أعبده ، والَّذِي أصلِّي له ؛ والَّذِي نفسي بيده ، ونحو ذلك .
واليمين بأسمائه ؛ كقوله : واللهِ ؛ والرَّحْمنِ ونحوه .
واليمين بصفاته ؛ كقوله : وعزَّة اللهِ ؛ وعظمةِ اللهِ ؛ وجلال اللهِ ؛ وقدرة اللهِ ، ونحوها .
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث ، وجبت عليه الكفَّارة ، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان ، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين ، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ ، عالماً كان أو جاهلاً{[3559]} .
وقال أصحاب الرَّأي : إِنْ كان عالِماً ، فهو كبيرةٌ ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر ، وإِنْ كان جاهلاً ، فهو يمين اللَّغو عندهم .
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس ؛ قال : " لأَنَّه - تعالى - ذكر هاهنا المؤاخذة بكسب القلب ، وقال في آيةِ المائدة :
{ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } [ المائدة :89 ] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ ، فلما ذكر هاهنا قوله : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضاً ذكر المُؤاخذة ، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة ، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر ، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به ، فالكفَّارة واجبةٌ فيها ، ويمين الغموس كذلك ، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها .
ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال : والكعبة ، وبيت اللهِ ، ونبيِّ الله ؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث ، وهو يمين مكروهٌ ؛ قال الشَّافعيُّ : وأخشى أن تكون معصية .
روى مالكٌ عن نافعٍ ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطَّاب ، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه ؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " {[3560]} .
قوله تعالى : { وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } قد تقدَّم أن " الغَفُور " مبالغةٌ في ستر الذُّنوب ، وفي إسقاط عقوبتها .
وأمَّا " الحليم " فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة ، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة ، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي : على أشدِّها قوَّةً في السَّير ، ومنه الحِلْم ، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون ، وحلمة الثَّدي ؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة ، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح ، فسد وتثقَّب ؛ وقال [ الوافر ]
فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ *** كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ{[3561]}
وأمَّا " حَلَمَ " ، أي : رأى في نومِه ، فبالفتح ، ومصدرُ الأولِ " الحِلْم " بالكسر ؛ قال الجعديُّ : [ الطويل ]
وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ *** بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا{[3562]}
ومصدرُ الثاني " الحَلِّمُ " بفتح اللام ومصدرُ الثالث : " الحُلُم " و " الحُلْم " بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها .