اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو ، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً ، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً ، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام ، أو بما لا خير فيه ، أو بِما يلغى إثمه ؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام –

" إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " {[3537]} .

ومن الثاني قوله تعالى : { وَالْغَواْ فِيهِ } .

قال الفرَّاء : اللَّغا مصدر للغَيت{[3538]} .

قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ " اللَّغو " في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية .

الثاني : بمعنى الشَّتيمة ؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان :72 ] ، أي : لم يجيبوهم ؛ ومثله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص :55 ] .

الثالث : بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر ؛ قال تعالى : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } [ الطور :23 ] ، أي : لا يحلف بعضهم على بعض .

فصل

والباء في " بِاللَّغْوِ " متعلِّق ب " يؤاخذكم " والباء معناها السَّببيّة ، كقوله : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت :40 ] ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } [ النحل :61 ] .

واختلف في اللَّغْوِ : فقيل : ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ ، قاله الفرَّاء ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]

وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ *** إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ{[3539]}

ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ ، فنهض الفرزدق ، وقال : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ ، وأَنْشَد البيت : [ الطويل ]

وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ . . . *** . . .

وقوله : [ الطويل ]

وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا *** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ{[3540]}

فقال الحسن : " ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك " ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ " لَغْوٌ " .

قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان :72 ] ، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم :62 ] ؛ وقال العجاج : [ الرجز ]

وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ *** عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ{[3541]}

وقيل : ما يُطرحُ من الكلام ؛ استغناءً عنه ، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة " لَغْوٌ " ؛ قال جريرٌ : [ الوافر ]

وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً *** كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَارَا{[3542]}

وقيل : " اللَّغو " السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره ، فأَمَّا وروده في الكلام ؛ فكقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص :55 ] وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ الواقعة :25 ] ، وقوله : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت :26 ] ، { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية :11 ] وقال عليه الصّلاة والسّلام : " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ " {[3543]} .

وأما قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان :72 ] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً ، وأن يكون المُرادُ : وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً ، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام ، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل .

وقيل : هو ما لا يُفهم ، من قولهم : " لَغَا الطَّائِرُ " ، أي : صوَّتَ ، واللَّغو ، ما لَهجَ به الإنسانُ ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا .

وقال الراغب{[3544]} : ولَغِيَ بكذا : أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ " لُغَة " ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا ، أي : أُولِعَ به ، وقال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ - : " ومنه اللغةُ ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ " ، وقد غَلَّطوه في ذلك .

قوله : { فِي أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أن يتعلَّق بالفعلِ قبله .

الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله ؛ كقولك : " لَغَا فِي يمينه " .

الثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ ، وتعرفه من حيث المعنى ؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ ، ووصفْتَ به اللغو ، لصحَّ المعنى ، أي : اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ . وسُمِّي الحَلفُ يَميناً ؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر .

وقيل : لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء .

فصل في تفسير اللغو

ذكر المفسِّرون في " اللَّغو " وجوهاً :

أحدها : قال الشَّافعيُّ وغيره : هو قول الرَّجل في عرض حديثه : " لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ " من غير قصدٍ إليهما ، وهو قول عائشة ، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة ، لِمَا رَوَت عائشة ؛ قالت : سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية : قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه : ( لاَ واللهِ ) و( بَلَى واللهِ ) أخرجه البُخاريّ{[3545]} ، ويروى عن عائشة : أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة ، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ{[3546]} .

وقال آخرون : هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس والحسن ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، والزُّهري ، والسُّدِّيّ ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة : ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة{[3547]} .

وفائدة الخلاف : أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل : " لاَ واللهِ " و " بَلَى واللهِ " ، ويوجبها ، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان ، ثم بان أَنَّه لم يكن ، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك .

وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية ، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها ، بل يحنث ويُكَفِّر{[3548]} .

وقال مسروق : ليس عليه كفَّارة ، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان{[3549]} ؟ وقال الشَّعبيُّ : الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها{[3550]} ، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها ، فليس فيها كفَّارة ، ولو أَمرته بالكفَّارة ، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله .

هذا هو اللَّغو ؛ لأن اللَّغو هو المعصية ؛ قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } .

وقال عليٌّ : هو اليمين في الغضب ، وبه قال طاوس{[3551]} .

وقال الضَّحَّاك : اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة{[3552]} ، سُمِّيت لغواً ، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم ؛ كأنه قيل : لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم ، إِذْ كَفَّرْتُم .

وقال زيد بن أسلم : هو دُعاء الرَّجُل على نفسه ؛ كقوله : " أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا ، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً " أو يقول : هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا{[3553]} ، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به ، ولو آخَذَ اللهُ به ، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة ؛ قال تعالى : { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } [ الإسراء :11 ] ،

{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } [ يونس :11 ] .

وقال القاضي{[3554]} : هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ ؛ لقوله تعالى بعد ذلك : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : يؤاخذكم إذا تعمَّدتم ، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو ، حُجَّة الشَّافعي رضي الله عنه ما روت عائشة رضي الله عنها ؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ : كَلاَّ واللهِ ، بَلَى واللهِ ، لاَ وَاللهِ " {[3555]} .

وروي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ينتضلون ، ومعه رجلٌ من أصحابه ، فرمى رجلٌ من القوم ، فقال : أصبت واللهِ ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام : حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ ، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - : " كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَلاَ عُقُوبَةَ " {[3556]} .

وأيضاً فقوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ ، ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك ، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له ، ويكُون معناه : ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله ، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة .

وأيضاً : فَإِنَّه قال قبل هذه الآية : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } وتقدَّم أنَّ معناه : النَّهي عن كثرة الحلفِ ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله ، وبلى والله ، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين ، فلمَّا ذكرهم اللهُ - تعالى - عقيب قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة ، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين .

واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه :

الأول : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام - : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ " {[3557]} ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً ، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل .

الثاني : أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق ، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ ، وبَلَى والله ، إذا حصل الحَنثُ .

ويؤيِّد ما قلناه : أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة ؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ *** تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ{[3558]}

أي : بالقوَّة ، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين ، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية ، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية البتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل ، فإنه قابلٌ للتَّقوية .

قوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم } وقعت هنا " لَكِنْ " بين نقيضين ؛ باعتبار وجود اليمين ؛ لأنَّها لا تَخْلُو : إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ : بل جرتْ على اللسانِ ، وهي اللَّغْوُ ، وإمَّا أن يقصِدَها ، وهي المنعقدةُ .

قوله تعالى : { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبله ، والباءُ للسببية كما تقدَّم ، و " مَا " يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :

أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر ، وهو اللَّغو ، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ ، ولكن بالكسب .

والثاني : أنها بمعنى " الذي " ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : كَسَبَتْهُ ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى " الَّذِي " أكثرُ منها مصدريةً .

والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، والعائدُ أيضاً محذوفٌ ، وهو ضعيفٌ ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ ، تقديره : ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه .

فصل

قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين ، وكَسبُ القَلْب : العقدُ والنِّيَّة .

وقال زيد بن أسلم في قوله : " وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " هو في الرَّجل يقول : هو مشركٌ إن فعل أي : هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه .

واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ ، أو صفةٍ من صفاته ، فاليمين باللهِ أَنْ يقول : والَّذي أعبده ، والَّذِي أصلِّي له ؛ والَّذِي نفسي بيده ، ونحو ذلك .

واليمين بأسمائه ؛ كقوله : واللهِ ؛ والرَّحْمنِ ونحوه .

واليمين بصفاته ؛ كقوله : وعزَّة اللهِ ؛ وعظمةِ اللهِ ؛ وجلال اللهِ ؛ وقدرة اللهِ ، ونحوها .

فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث ، وجبت عليه الكفَّارة ، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان ، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين ، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ ، عالماً كان أو جاهلاً{[3559]} .

وقال أصحاب الرَّأي : إِنْ كان عالِماً ، فهو كبيرةٌ ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر ، وإِنْ كان جاهلاً ، فهو يمين اللَّغو عندهم .

واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس ؛ قال : " لأَنَّه - تعالى - ذكر هاهنا المؤاخذة بكسب القلب ، وقال في آيةِ المائدة :

{ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } [ المائدة :89 ] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ ، فلما ذكر هاهنا قوله : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضاً ذكر المُؤاخذة ، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة ، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر ، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به ، فالكفَّارة واجبةٌ فيها ، ويمين الغموس كذلك ، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها .

فصل في كراهية الحلف بغير الله

ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال : والكعبة ، وبيت اللهِ ، ونبيِّ الله ؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث ، وهو يمين مكروهٌ ؛ قال الشَّافعيُّ : وأخشى أن تكون معصية .

روى مالكٌ عن نافعٍ ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطَّاب ، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه ؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " {[3560]} .

قوله تعالى : { وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } قد تقدَّم أن " الغَفُور " مبالغةٌ في ستر الذُّنوب ، وفي إسقاط عقوبتها .

وأمَّا " الحليم " فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة ، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة ، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي : على أشدِّها قوَّةً في السَّير ، ومنه الحِلْم ، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون ، وحلمة الثَّدي ؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة ، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح ، فسد وتثقَّب ؛ وقال [ الوافر ]

فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ *** كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ{[3561]}

وأمَّا " حَلَمَ " ، أي : رأى في نومِه ، فبالفتح ، ومصدرُ الأولِ " الحِلْم " بالكسر ؛ قال الجعديُّ : [ الطويل ]

وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ *** بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا{[3562]}

ومصدرُ الثاني " الحَلِّمُ " بفتح اللام ومصدرُ الثالث : " الحُلُم " و " الحُلْم " بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها .


[3537]:- أخرجه البخاري (2/48) كتاب الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة رقم (934) ومسلم (3/4) والنسائي (1/208) والترمذي (2/387) وابن ماجه (1110) والدارمي (1/364) والبيهقي (3/218) وأحمد (2/272، 393، 396، 474، 485) من طرق عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا وللحديث شاهد من حديث أبي بن كعب: أخرجه ابن ماجه (1111) وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/143) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/77) هذا إسناد رجاله ثقات وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 257) وقال إسناده حسن.
[3538]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/66.
[3539]:- ينظر: ديوانه (851)، الدر المصون 1/549.
[3540]:- ينظر: ديوانه (2/576)، الدر المصون 1/549.
[3541]:- ينظر: ديوانه (856)، الدر المصون 1/549.
[3542]:- وهو لذي الرمة: ينظر ديوانه (196)، أمالي القالي 2/142 اللسان والتاج: (لغو)، الدر المصون 1/549.
[3543]:- أخرجه البخاري (2/414) كتاب "الجمعة": باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب حديث (394)، ومسلم (2/583) كتاب "الجمعة": باب في الإنصات يوم الجمعة (11/ 851).
[3544]:- ينظر: المفردات للراغب 472.
[3545]:- أخرجه البخاري (11/476) وأبو داود (3/304) رقم (3254) ومالك في الموطأ (2/477) والبيهقي (10/48) والطبري في "تفسيره" (4/428-429) عن عائشة موقوفا.
[3546]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/443) عن عائشة.
[3547]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/66، وتفسير البغوي 1/201.
[3548]:- أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في "الدر المنثور" (1/479).
[3549]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/4342) عن مسروق.
[3550]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/441) عن الشعبي.
[3551]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/338) عن طاووس.
[3552]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/445) عن الضحاك.
[3553]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/454) عن زيد بن أسلم.
[3554]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/ 68.
[3555]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/429) عن عائشة مرفوعا وأخرجه البخاري (11/ 476) وأبو داود (3/304) رقم (3254) ومالك في "الموطأ" (2/477) والبيهقي (10/48) عن عائشة موقوفا.
[3556]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/444) عن الحسن مرسلا وأورده الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (1/527) من هذا الوجه وقال: هذا مرسل حسن عن الحسن.
[3557]:- تقدم.
[3558]:- البيت للشماخ: ينظر: ديوانه (336)، الأغاني 8/97، تهذيب اللغة (يمن).
[3559]:- قالت الأئمة الثلاثة: "الأيمان ثلاثة: لغو؛ ومنعقدة: وهو الحلف على أمر مستقبل ليفعلن أو ليتركن؛ وغموس: وهو ما كان الحالف بها عالما بكذبه فيما حلف عليه. فقالت الحنفية والحنابلة: لا كفارة فيها، سواء تعلقت بالماضي أو بالحال؛ لقوله-صلى الله عليه وسلم: "خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الإشراك بالله تعالى، والفرار من الزحف، وبهت المؤمن، وقتل المسلم بغير حق، والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم". وقالت المالكية: اليمين الغموس إن تعلقت بالحال أو الاستقبال، ففيها الكفارة، ولعل وجهتهم في ذلك أن اليمين عند تعلقها بالماضي يكون الكذب فيها محققا، والذنب فيها عظيما، فتصير أكبر من أن تعمل فيها الكفارة، أما عند تعلقها بالحال أو بالاستقبال فيكون الأمر على خلاف هذا، فتصبح قريبة من اليمين المنعقدة، وتأخذ حكمها فتعمل فيها الكفارة. وبالنظر في أدلة كل: نرى أن القول بعدم الكفارة من غير توبة في يمين الغموس هو الراجح؛ لأن الرسول-صلى الله عليه وسلم- أخبر بصريح العبارة بأنه لا كفارة فيها، وأما استدلال الشافعية بشمول الآية لها مطلقا فغير ظاهر؛ لما تقدم من الحديث. وأما تفرقة المالكية في اليمين الغموس بين الماضي والحال والمستقبل- فدعوى يعوزها الدليل، ويردها قول الرسول-صلى لله عليه وسلم-: "خمس من الكبائر لا كفارة فيها...الخ" وعد منها اليمين الغموس؛ لأنه-صلى الله عليه وسلم- لم يفرق في الغموس بين الماضي وغيره، فالتوبة مسقطة لحق العبد، والكفارة لحق المولى سبحانه.
[3560]:- أخرجه البخاري (8/236) كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم رقم (6647) ومسلم (5/81) ومالك في "الموطأ" (2/480) وأبو داود (3249) والترمذي (1/289) والدارمي 2/185) وابن أبي شيبة (4/179) والبيهقي (10/28) وأحمد (2/11، 17، 142)، من طرق عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب...فذكره وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري (4/363) ومسلم (5/80) والنسائي (2/139) والترمذي (1/290) وابن ماجه (2094) وابن أبي شيبة (4/179) وابن الجارود (922) والبيهقي (10/29) وأحمد (2/8). لكن ليس في حديثهم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه مسلم (5/81) والنسائي (2/139) وأحمد (2/76، 98) من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ: من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم.
[3561]:- البيت للوليد بن عقبة؛ ينظر البحر 2/185، اللسان: (حلم)، الدر المصون 1/550.
[3562]:- ينظر ديوانه (173)، اللسان: (رفق)، الدر المصون 1/550.