اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

" الهَزْمُ " : أصله الكسر ، يقال " سِقَاءٌ مَتَهزِّم " إذا انشق و " قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ " ، أي متكسِّر .

والهزمة : نقرة في الجبل ، أو في الصَّخرة . قال سفيان بن عيينة في زمزم : وهي هزمة جبريل ، يريد هزمها برجله فخرج الماء . ويقال : سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ . ويقال للسَّحاب هزيم ؛ لأنَّه ينشق بالمطر .

قوله : " بِإِذْنِ اللهِ " فيه الوجهان المتقدِّمان أعني كونه حالاً ، أو مفعولاً به .

فصل

أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره ، ثم قال : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } .

قال القرطبيُّ{[4132]} : وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم ، ظلُّه ميل ويقال : إنَّ البربر من نسله .

قال ابن عبَّاس : إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً ، له سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم " إِيشَا " ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز ، وكان من قوم عاد ، فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف ؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت ، وهو يحرض الناس .

فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف ؟

فقال طالوت : أنكحه ابنتي ، وأعطيه نصف ملكي ، فقال داود : فأنا أخرج إليه ؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى ، وكان طالوت عارفاً بجلادته ، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت ، مرّ بثلاثة أحجار فقلن : يا داود ، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت ، ثمَّ لما خرج إلى جالوت ، رماه ، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناساً كثيرة ، فهزم الله جنود جالوت ، وقتل داود جالوت{[4133]} وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة . وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس ، فحسده طالوت ، وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم على صنعه ، فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود ، وحصلت له النُّبوَّة ، وهو المراد من قوله : { وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } هو العلم مع العمل والحكمة : هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب ، والصَّلاح .

قوله : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ . . . } .

قال الكلبيُّ وغيره : " صنعة{[4134]} الدُّرُوعِ " .

قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [ سبأ :10-11 ] وقيل : منطق الطَّير والنّمل ، وقيل الزّبور ، وعلم الدّين ، وكيفية الحكم ، والفصل .

قال تعالى : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء :79 ] .

وقيل : الألحان الطَّيِّبة . قيل كان إذا قرأ الزَّبور ؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطّير مصغية له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الرّيح .

وروى الضَّحَّاك{[4135]} عن ابن عباس : هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة ، ورأسها عند صومعته ، وقوّتها قوّة الحديد ، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر ، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب ، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة ، فيعلم داود ذلك الحدث ، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه ، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة ، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة ، فنالها ، ومن كان كاذباً ، لم ينلها ، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة ، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه ، فنقرها وضمنها الجوهرة ، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة ، فقال صاحب الجوهرة : ردَّ عليَّ الوديعة . فقال له صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة ، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة ، فقام صاحب الجوهرة ، فتناولها بيده . فقيل للمنكر قم أنت ، فتناولها .

فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكَّازي هذا ، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة ، فأخذها فقال الرجل : " اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها ، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة ، فمد يده فتناولها ، فتعجب القوم ، وشكُّوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة .

قوله " مِمَّا يَشَاءُ " : فاعلٌ ، " يشاء " ضمير الله تعالى .

وقيل : ضمير داود ، والأول أظهر .

قوله : " وَلَوْلاَ دَفْعُ " ؛ قرأ{[4136]} نافعٌ هنا ، وفي الحج : " دِفَاع " ، والباقون : " دَفْع " . فأمَّا " دَفْع " ، فمصدر " دَفَعَ " " يَدْفَعُ " ثلاثياً ، وأمَّا " دِفَاع " فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مصدر " دَفَعَ " الثلاثيِّ أيضاً ، نحو : كَتَب كتاباً ، وأن يكون مصدر " دَافَعَ " ؛ نحو : قاتل قتالاً ؛ قال أبو ذؤيبٍ : [ الكامل ]

وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ *** فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ{[4137]}

قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ ، تقول : جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً ، وقمت قياماً ، وأن يكون مصدر لدفع تقول : دفعته ، دفعاً ، ودفاعاً نحو : قتل قتلاً وقتالاً .

و " فاعل " هنا بمعنى فَعَلَ المجرد ، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة ، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة ، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ، ورسله ، وأئمة دينه ، وكان يقع بين أولئك المحقين ، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى : { يُحَارِبُونَ اللهَ } [ المائدة :33 ] و{ شَاقُّواْ اللهَ } [ الأنفال :13 ] ونظائره كثيرة .

ومن قرأ " دِفَاع " ، وقرأ في الحجّ { يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الحج :38 ] أو قرأ " دَفْع " ، وقرأ " يَدْفَع " وهما أبو عمرو وابن كثير فقد وافق أصله ، فجاء بالمصدر على وفق الفعل ، وأمَّا من قرأ هنا : " دَفْع " ، وفي الحجّ " يُدافِع " ، وهم الباقون ، فقد جمع بين اللُّغتين ، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي . والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى ، و " النَّاس " مفعول أول ، و " بعضهم " بدلٌُ من " الناسِ " بدل بعضٍ من كلٍّ .

و " ببعضٍ " متعلِّقٌ بالمصدر ، والباء للتعدية ، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى ، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم ، نحو : " ذَهَبَ بِهِ " فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة ، تقول : " طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم " ، ولا تقول : " طَعِمْته باللَّحْم " ، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء ، إلاَّ فيما شذَّ قياساً ، وهو " دَفَعَ " ، و " صَكَّ " ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلت أحدهما يصكُّ الآخر ، ولذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر .

فصل في المدفوع والمدفوع به

اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع ، والمدفوع به ، وأمَّا المدفوع عنه ، فغير مذكورٍ ، وهو يحتمل وجوهاً :

الأول : أن يكون المعنى : ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل .

قال تعالى : { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم :1 ] .

الثاني : دفع بعض الناس عن المعاصي ، والمنكرات بسبب البعض ، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ؛ لقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عمران :110 ] .

الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج ، والمرج ، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ثم الأئمة والملائكة والذّابّون عن شرائعهم ، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، ما لم يخبز هذا لذاك ، ويطحن ذاك لهذا ، ويبني هذا لذاك ، وينسج ذاك لهذا ، ولا تتمّ مصلحة الإنسان .

فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد ، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع ، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة ، ثم إلى المقاتلة ، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات ، والمنازعات ، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع ؛ ليدفع بهم ، وبشرائعهم الآفات ، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ{[4138]} أَخَوَان " وقال أيضاً : " الإِسْلاَمُ أميرٌ ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ " {[4139]} .

وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله : { لَفَسَدَتِ الأَرْضُ } ، أي : لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمّى فساداً . قال تعالى : { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ البقرة :205 ] وقال : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [ القصص :19 ] .

الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين ، والأبرار عن الكفّار ، والفجّار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها . قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ " {[4140]} . وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي ، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي ، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[4141]} .

ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف :82 ] . وقال تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح :25 ] وقال :

{ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال :33 ] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : " لَفَسَدَتِ الأَرْضُ " ، أي : لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة .

قال القرطبيُّ{[4142]} : وقيل : هم الأبدال ، وهم أربعون رجلاً ، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام ، وثمانية عشر بالعراق .

وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء " {[4143]} .

ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال ، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم ، ولا صلاة ، ولكن بحسن خلق ، وصدق الورع ، وحسن النِّية ، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله ، بصبر ، وحلم ، ولبٍّ ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه ، واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره ، والبلايا عن النَّاس ، وبهم يمطرون ، ويرزقون ، لا يموت الرَّجل منهم ، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه{[4144]} .

وقال سفيان الثَّوري : " هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق " .

الخامس : قال ابن عبَّاس ومجاهد : ولولا دفع الله بجنود المسلمين ؛ لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين ، وخربوا المساجد ، والبلاد{[4145]} .

السادس : أن يحمل اللفظ على الكل ؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً ، وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللَّفظ عليه ، دخلت الأقسام بأسرها فيه .

فصل في بطلان مذهب الجبر

قال القاضي{[4146]} : هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر ؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ } تأثير في زوال الفساد ؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس ، والجواب : أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات ، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً { وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد ؛ لأنه الدَّافع على قولهم ، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع . فإن قالوا : نحمل هذا على البيان ، والإرشاد .

قلنا : كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار ، والفجَّار ، ولم يحصل منهم دفاع .

قوله : " وَلَكِنَّ اللهَ " وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به ، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض ، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله غير متفضِّلٍ عليه ، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه [ أنّه ] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه ، ومحسن إليه ؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين ، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ ، وله فضل الاختراع [ والإيجاد ] .

و " عَلَى " يتعلَّق ب " فَضْل " ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها ، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل ؛ وقد جمع [ بين ] الحذف والإثبات في قوله : [ الوافر ]

وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقََيْماً *** كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ{[4147]}

أمَّا إِذا ضُعِّف ، فإنه لا تحذف " على " أصلاً كقوله : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، ويجوز أن تتعلَّق " عَلَى " بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل .


[4132]:ينظر: تفسير القرطبي 3/167.
[4133]:- ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (6/159) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4134]:- ينظر: تفسير البغوي 1/235.
[4135]:- ينظر: المصدر السابق.
[4136]:- انظر: السبعة 187، والحجة 2/352، وحجة القراءات 140، والعنوان 74، وإعراب القراءات السبع 1/91، وشرح الطيبة 4/114، وشرح شعلة 293، وإتحاف 1/446.
[4137]:- ينظر: ديوان الهذليين 1/2، البحر 2/278، الدر المصون 1/608.
[4138]:- أخرجه الديلمي عن ابن عباس كما في "كنز العمال" (6/10) رقم (14513).
[4139]:- ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (6/162). ووقع في المخطوطة أ بلفظ: الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو متهدم وما لا حارس له فهو ضائع. والحديث لم أجده في شيء من كتب الحديث.
[4140]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/374) والبغوي في "تفسيره" (1/256) وابن عدي في "الكامل" (2/790) والعقيلي في "الضعفاء" (4/404) والطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (8/164). وقال الهيثمي: وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف. وقال العقيلي: يحيى بن سعيد العطار شامي مكر الحديث لا يتابع على حديثه.
[4141]:- وذكره القرطبي في "تفسيره" الجامع لأحكام القرآن" (2/169).
[4142]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/169.
[4143]:- أخرجه أحمد (1/112) وابن عساكر (1/61- تهذيب) والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" كما في "الدر المنثور" (1/567) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[4144]:- أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الأولياء" كما في "الدر المنثور" (1/569).
[4145]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/373) عن مجاهد بمعناه.
[4146]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/163.
[4147]:- تقدم برقم461.