[ قوله تعالى : " فَصَلَ " : أي : انْفَصَلَ ، فلذلك كان قاصِراً . وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ .
و " بِالجُنُودِ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من " طَالُوت " أي مصاحباً لهم ] . وبين جملةِ قوله : " فلمَّا فَصَلَ " وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ ، وتأهَّبوا للخروجِ ، وهي كقوله : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [ يوسف :45 ، 46 ] . ومعنى الفصل : القَطْعُ .
يقال : فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً ، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً . ويُقالُ للفطام فِصالٌ ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، قال تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } [ يوسف :94 ] والجنود جمع جُنْدٍ ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ ، يقال للجراد الكثيرة : إنَّها جنود اللهِ ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ " {[4094]} .
روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً ، وقيل : ثمانُون ألف مُقاتل ، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر ، فساروا إلى الجهاد ، فقال طالُوتُ : لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى ، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنا بيتاً لم يفرغ منه ، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة ، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها ، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً ، وكان في حَرٍّ شديد ، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم ، وبين عدوِّهم وقالوا : إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا ، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال : { إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } ، واختلفوا في هذا القائل ، فقال الأكثرون هو طالوت ؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ ، وعلى هذا ، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه ، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ ، وقيل : القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول القِصَّةِ ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام ، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا : هذا الكلامُ من طالُوت ، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي ، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً ، وإن قلنا : الكلام من النَّبيّ فتقديره : فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم : إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ ، وفي هذا الابتلاء وجهان :
الأول : قال القاضي{[4095]} : كان المشهُورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء ، والملوك مع ظهور الآيات ، والمعجزات ، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره .
الثاني : أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من " بَلاَ يَبْلُو " و " ابْتَلَى يَبْتَلِي " ؛ قال : [ الكامل ]
وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي *** وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ{[4096]}
فجاء باللُّغتين ، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو ؛ وابتلى يَبْتَلِي ، أي : اختبر ، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها .
قوله " بِنَهَرٍ " الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ ، وفيه لغةٌ أخرى : تسكينُ الهاءِ ، وبها قرأ مجاهد{[4097]} وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق ، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين ؛ كقوله : صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر ؛ قال : [ البسيط ]
كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ *** فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ *** مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ{[4098]}
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ البقرة :25 ] .
قوله : " فَلَيْسَ مِنِّي " ، أي : من أَشياعي وأصحابي ، و " مِنْ " للتَّبعيض ؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه ؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً *** فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي{[4099]}
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ ؛ تقولُ العربُ : " طَمِعْتُ الشَّيْءَ " أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ ؛ قال : [ الطويل ]
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ *** وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا{[4100]}
والنقاخ : الماءُ العذبُ المروِي ، والبردُ : هو النَّومُ .
قال أهلُ اللُّغة : وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين :
أحدهما : أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً ، ثم شربَ الماء ، وأراد وصف ذلك الماء ، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة ، فقوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ، أي : وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة ؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وألا يشرب .
الثاني : أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه ، وتمضمض به ، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه ، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني ، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب . فلما قال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } حصل المنعُ في الشُّربِ ، والمضمضة ، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ .
فإن قيل : هَلاَّ قيل : " وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ " ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها ؟
فالجواب : إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ . قال أبو حنيفة : لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ ، وشرب لا يحنث ؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو : أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء ، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر .
وقال الباقون : يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر ؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً ، فهو مجازٌ معروفٌ ، وإذا تقرَّر هذا فقوله : { مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ظاهره : أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ ، وشرب ، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال ، فقال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال .
قال ابنُ عبَّاس ، والسُّدِّيُّ : إِنَّه نهر فلسطين{[4101]} ، وقال قتادة والرَّبيع : هو نهرٌ بين الأُردن وفلسطين{[4102]} قال القاضي{[4103]} : والتوفيقُ بين القولين : أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين . وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً ، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً ، فقال : إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ .
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المُستَثنى منه وجهان :
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى ، وهي : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ ، وإِنَّما قُدِّمَتْ ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم ، فإنَّه لمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه ، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم ، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ .
وقال الزمخشريُّ : والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة ، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَ " والصَّابِئُونَ " في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ } [ المائدة :69 ] .
والثاني : أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية ، وإليه ذهب أبو البقاء{[4104]} . قال شهاب الدين : وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى : ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي ، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده ؛ فإنه ليس مني ، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ ، ومن الإِثبات نفيٌ ، كما هو الصَّحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى ؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً .
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة ، أم لا ؟
خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيل ، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى ، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ .
وقرأ الحرمِيَّان{[4105]} وأبو عمرو : " غَرْفَة " بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ . والباقون بضمها . فقيل : هما بمعنى المصدر ، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل : اغترافاً . وقيل : هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ . وقيل : المَفْتوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ ، فإنَّ " فَعْلَة " يدُلُّ على المَرَّة الواحدة ، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول ، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [ محذوفٌ ، تقديره : إلاَّ مَن اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول ] كانا مفعولاً به ، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ .
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم ، والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم . قال القرطبيُّ{[4106]} : وقال بعضهم : الغرفة بالكَفّ الواحد ، والغُرفة بالكفين .
وقال المبرِّدُ " غَرْفَةً " بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف ، أو ما اغترف به ، فحيثُ جعلتهما مصدراً ، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره : إِلاَّ من اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به ، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح .
قوله : " بِيَدِهِ " يجوزُ أن يتعلَّق ب " اغْتَرَفَ " وهو الظَّاهر . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل " غُرْفَة " ، وهذا على قولنا : بأن " غُرْفَة " ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا : بأنها مَصْدَرٌ ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ ، أي : غُرفةً كائِنَةً في يده .
قال ابن عباس : كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل منها{[4107]} . قال ابن الخطيب{[4108]} : وهذا يحتملُ وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل باقيه .
والثاني : أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء ؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
قال القرطبي{[4109]} : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ ، فإذا كان طعاماً ، كان قُوتاً للأَبدان به ، فوجب أن يجري فيه الرِّبا .
قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب ، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال : لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً ، وإلى أجلٍ ، وهو قول أَبي حنيفة ، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن : هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل .
قال ابن العربيِّ : قال أبو حنيفة : إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه ، والكرعُ : أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر ، فَإِنْ شرب بيده ، أو اغترف منه بإِناءٍ ، لم يعتق ، لأنَّ اللهَ تعالى فرَّق بين الكرع في النَّهر ، وبين الشّرب باليدِ . قال : وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد ، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً .
قال القرطبي{[4110]} : وقول أبي حنيفة أصحّ ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما ، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ .
قال الجوهريُّ وغيره : كرع من الماء كروعاً : إذا تناوله بفيه من موضعه ، من غير أَنْ يشرب بكفيه ، أو بإناءٍ ، وفيه لغة أخرى " كرعَ " بكسر الرَّاء كَرَعاً .
وَأَمَّا السُّنَّة ، فما رُويَ عن ابن عمر قال : مررنا على بِرْكةٍ ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها ، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ " {[4111]} وقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا " {[4112]} أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر .
قوله : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً } هذه القراءةُ المشهورةُ ، وقرأ{[4113]} عبد الله ، وأُبَيّ والأعمش " إِلاَّ قَليلٌ " وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى ، فإنه في قُوَّة : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم ، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ . قال الزَّمخشريُّ : وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً ، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ ، فلمَّا كان معنى " فَشَرِبُوا مِنْهُ " في معنى " فلم يُطِيعوه " حمل عليه ، ونحوه قول الفرزدق : " لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ " يشير إلى قوله : [ الطويل ]
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ{[4114]}
فإنَّ معنى " لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً " لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ ، فلذلك عطف عليه " مُجَلَّفُ " بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور . وفي البيت وجهان آخران ، أحدهما{[4115]} . . .
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول : إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو : " قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً " فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ . وقال بعضهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ " إِلا " ما قبلها في الإِعراب فتقول : " مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ " بجرّ " زَيْدٍ " واختلفوا في تابعيَّة هذا ، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه ، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً ، أم نكرةً مضمراً ، أم ظاهراً ، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم .
ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً ، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة . ومنهم مَنْ قال : قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ : إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد " إِلاَّ " قوله : [ الوافر ]
وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ{[4116]}
لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف ، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم ، وأطاع قليلٌ ، فلم يشربوا ، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش ، ولم يرووا ، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا ، فقوي قلبهم ، وصحَّ إِيمانهُمُ .
قال السُّدِّيُّ : كانوا أربعة آلاف{[4117]} ، وقال الحسن ، وهو الصَّحيح : أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة ، وبضعة عشر{[4118]} ، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر : " أَنْتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ " {[4119]} .
قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلاثمائة ، وثلاثة عشر رجلا{[4120]} ولا خلاف بين المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم ، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله ؟ والصَّحيح : أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر ، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } .
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ : كان المُخالِفون أهل شكٍّ ، ونِفاقٍ ، فقالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } فانحرفوا ، ولم يجاوزُوا النَّهرَ{[4121]} .
وقال آخرون : بل جاوزُونا النَّهرَ ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة ، ومعرفتهم بجالوت ، وجنوده ؛ لقولهم { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } .
قوله : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً } وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لاقوا العدوّ ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما : رجعت وهي المخالفة ، وبقيت المطيعة .
قوله : { جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } " هو " ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في " جَاوَزَ " .
قوله : " والَّذِين " يحتملُ وجهين :
أظهرهما : أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في " جَاوَزَ " لوجود الشَّرط ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ .
والثاني : أَنْ تكُون الواوُ للحالِ ، قالوا : ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ " الَّذِينَ " مبتدأ ، والخبرَ قالوا : " لاَ طَاقَةَ " ؛ فصار المعنى : " فَلمَّا جَاوَزَهُ ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة " ، والمعنى ليس عليه .
ويجوزُ إدغامُ هاء " جَاوَزَهُ " في هاء " هُو " ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ ؛ لأنها ضعيفةٌ ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام ، قال : " إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ " ، يعني : فلا يبقى فاصلٌ . وهي قراءة أبي عمرو{[4122]} ، وأدغم أيضاً واوَ " هُوَ " في واو العطف بخلاف عنه ، فوجه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما . ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ ، وأصحابُهُ قال : " لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ ، فصارَت نظير : { آمَنُواْ وَكَانُواْ } [ يونس :63 ] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا . وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين :
أحدهما : أنها ما صارَتْ مثلَ " آمنوا ، وكانوا " إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك ؟ وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة :254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم :18 ] و{ الَّذِي يُوَسْوِسُ } [ الناس :4 ] بعين ما عَلَّلوا به .
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ ، كهذه الآية ، ومثله : { هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ } [ آل عمران :18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص :39 ] ، فلو سكنت الهاءُ ؛ امتنع الإِدغامُ نحو { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } [ الأنعام :127 ] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله :
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ } [ الأعراف :199 ] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ : " الْعفوَ وأمر " .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } .
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان ، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت ، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ " مع " لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح :5 ] واليسر لا يكون مع العسر .
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ } [ لنَا ] هو : خبر " لا " ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعده من قوله " اليَومَ " و " بِجَالُوتَ " ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراهُ مبنيّاً على الفتح ، بل " اليَوْمَ " و " بِجَالُوتَ " متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به " لنَا " .
وأجاز أبو البقاء{[4123]} : أن يكون " بِجَالُوتَ " هو خبرَ " لا " ، و " لنَا " حينئذٍ : إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة .
والطَّاقةُ : القُدرةُ وعينُها واو ؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ ، فإِنَّها من " أَطَاقَ " ونظيرها : أجَابَ جابةً ، وأَغَارَ غارةً ، وَأَطَاعَ طَاعةً .
و " جالوت " اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول ، كما تقدَّم في طَالُوت ، ومثلهما داود .
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } " كَمْ " خبريةٌ ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي{[4124]} : " وكَائِن " ، وهي للتكثير ، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء ، و " مِنْ فِئَةٍ " تمييزُها ، و " مِنْ " زائدةٌ فيه . وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها ، ومميِّز " كَائِن " مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذفُ " مِنْ " فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح ، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز " كَم " الاستفهامية ، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها ، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ .
قال الفرَّاء : لو ألغيت " مِنْ " هاهنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ .
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ " كم " بمنزلة عددٍ ، فينصب ما بعدهُ نحو : عشرونَ رجلاً . وَأَمَّا الخَفْضُ ، فبتقدير دخول حرف " من " عليه .
وأَمَّا الرَّفعُ ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره " كم غلبت فئةٌ " ومِنْ مجيءِ " كَائِن " منصوباً قولُ الشاعر : [ الخفيف ]
أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ *** آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ{[4125]}
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ " مِنْ فِئَةٍ " في محلِّ رفع صفةً ل " كم " فيتعلَّق بمحذوفٍ . و " غَلَبَت " هذه الجملةُ هي خبرُ " كم " والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ .
أحدهما : أنها من فاء يَفِيء ، أي : رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة .
والثاني : أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي : كسرتُه ، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ ، ولامَ هذه واوٌ ، والفِئَةُ : الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت ، أو كثرت ، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه ، وجمعها : فئات وفئون في الرَّفع ، وفئين في النَّصب والجرِّ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة .
قوله : { بِإِذْنِ اللهِ } فيه وجهان .
أَظهرهُمَا : أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتَّقدير : ملتبسين بتيسير الله لهم .
والثاني : أَنَّ الباءَ للتَّعْدية ، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء{[4126]} : " وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به " .
وقوله : { وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتحتمِل وجهين :
أحدهما : أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم .
والثاني : أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها .
اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللهِ } . وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال قتادة : المراد من لقاء الله الموت . قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " {[4127]} . وهؤلاء المؤمنون ، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله .
وثانيها : قال أبو مسلم{[4128]} : معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ .
وثالثها : أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين : إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر ، والظّفر لِطَالُوتَ ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى ، أو بعدها ، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا : هل هُوَ في تلك المَرَّةِ ، أو بعدَها ؟ !
رابعها : قال كثير من المفسرين : يظنون : أي يعلمون ، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }
[ البقرة :46 ] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد .
والمراد من قولهم : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ } تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ، والمعنى : لا عِبرة بكثرةِ العددِ ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي ، ثم قال : { وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وهذا من تَمامِ قولهم ، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى ، والأَوَّلُ أَظهرُ .