قال القرطبيُّ{[4150]} : قال " تِلْكَ " ، ولم يقل " ذَلِكَ " مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء ، و " الرُّسُلُ " نعته ، وخبر الابتداء الجملة وقيل : " الرسل " عطف بيان ، و " فضَّلنا " الخبر .
قال أبو مسلمٍ{[4151]} : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخبار الأنبياء المتقدّمين ، وأقوال أُممهم لهم ، كسؤال قوم موسى : { أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً } [ النساء :153 ] ، وقولهم : { اجْعَلْ لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف :138 ] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، فكذبوه ، وراموا قلته ، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به ، وهم اليهود ، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه ، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت ، ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صلى الله عليه وسلم عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم ، ورفع الباقين درجات ، وأيّد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات ، فلا يحزنك ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدَّره ، فهو واقع .
في المراد من تلك الرُّسل أقوال :
أحدها : أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم - .
الثاني : أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل ، وداود ، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً .
الثالث : قال الأصمُّ{[4152]} : المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، وأشار إليهم بقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ } .
قوله تعالى : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه ، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم ، وقال " تلك " ولم يقل أولئك الرُّسل ؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل : تلك الجماعة ، ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون خبر " تِلْكَ " على أن يكون " الرُّسل " نعتاً ل " تِلْكَ " ، أو عطف بيان أو بدلاً .
أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ ، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من الكلِّ ، ويدلُّ على ذلك وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء :107 ] فلما كان رحمة للعالمين ، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين .
الثاني : قوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح :4 ] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان ، والتّشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء .
الثالث : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } [ النساء :80 ] وبيعته ببيعته فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ }
[ الفتح :10 ] وعزته بعزته فقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } [ المنافقون :8 ] ورضاه برضاه فقال : { واللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة :62 ] ، وإجابته بإجابته فقال : { اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال :24 ] .
الرابع : أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت ، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن ، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر .
الخامس : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام :90 ] فأمر محمداً بالاقتداء بهم ، وليس هو الاقتداء في أصول الدين ؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع ، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق ، فكأنه تعالى قال : إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت أجودها ، وأحسنها . فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم .
السادس : أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم ، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم ، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر ، فوجب أن يكون أفضل .
السابع : أن دين محمَّد أفضل الأديان ؛ فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء .
بيان الأول : أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان ، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ ، قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران :110 ] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع .
الثامن : قال صلى الله عليه وسلم : " آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ " {[4153]} وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ، ومن كل أولاده ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ " {[4154]} وقال صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا ، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي " وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا ، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا ، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا ، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ " {[4155]} .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم : عجبا إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " سَمِعْتُ كَلاَمَكُم ، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك ، ومُوسَى نَجِيُّ الله ، وَهُوَ كَذلِكَ ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي ، فَأَدْخُلها ، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ " {[4156]} .
التاسع : روى البيهقي في " فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ " - رضي الله عنهم - أنه ظهر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من بعيد ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : " هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ " فقالت عائشة رضي الله عنها : ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ ؟ فقال : " أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب " {[4157]} .
العاشر : جاء في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي ، وَلاَ فَخْرَ ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ ، والأَسْوَدِ ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي ، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً " {[4158]} .
الحادي عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً . قال : وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي " {[4159]} .
الثاني عشر : أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال : { يَا آدَمُ اسْكُنْ } [ البقرة :35 ] { يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ } [ المائدة :116 ] { ينُوحُ اهْبِطْ } [ هود :48 ] { يا دَاوُودُ } [ ص :26 ] { وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ } [ الصافات :104 ] { يا مُوسَى إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه :11-12 ] وأما النبي صلى الله عليه وسلم فناداه بقوله : { يأَيُّهَا النَّبِيُّ } [ الأنفال :64 ] { يأَيُّهَا الرَّسُولُ } [ المائدة :41 ] وذلك يفيد التفضيل .
قال القرطبي{[4160]} رحمة الله عليه : فإن قيل : قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ " ، فأجاب بعض العلماء عن ذلك ، فقال : كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل .
وقال قوم : إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة ، التي هي خصلة واحدة ، لا تفاضل فيها ، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينة .
وأما النُّبوَّة في نفسها ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها ؛ ولذلك منهم " أُولُو العَزْمِ " ، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً ، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ ، ورفع بعضهم درجات .
قال القرطبي{[4161]} : وهذا أحسن الأقوال ، فإنَّه جمع بين الآي ، والأحاديث من غير نسخ ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب ، والوسائل ، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة .
قال ابن الخطيب{[4162]} : فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء ، كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة ؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه ، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى ، وتلقفها ما صنعوا ، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء ، وفلق البحر ، وفلق الحجر ، ومكالمة ربه ، وداود ألان له الحديد ، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير ، وسخر لسليمان الجن ، والإنس ، والطير والوحوش والرِّياح ، وعيسى أنطقه في المهد ، وأقدره على إحياء الموتى ، ونفخ فيه من روحه ، وجعله يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " {[4163]} وقال : " لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى ابن زَكَرِيَّا{[4164]} " ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط .
فالجواب : أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة ؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ " وقال : " كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ " ، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السُّجُود . وقال تعالى : { إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } [ الأحزاب :56 ] - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بنفسه على محمَّد ، وأمر الملائكة ، والمؤمنين بالصَّلاة عليه ، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة ، وأيضاً ، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً ، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - تقريباً ، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - [ دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام ]{[4165]} لم يكن إلا مرَّةً واحدة ، وأيضاً فإِنَّ الملائكة ، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صلى الله عليه وسلم - في جبهة آدم .
قال القرطبي{[4166]} : وقال ابن قتيبة : إِنَّما أراد بقوله : " أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ " يوم القيامة ؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : " لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى " على طريق التواضع ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم :48 ] يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه .
فإن قيل : إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [ البقرة :31 ] وقال في حقّ محمد - صلى الله عليه وسلم - : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } [ الشورى :52 ] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ النجم :5 ] .
فالجواب : أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء :113 ] ، وقال : { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ الرحمن :1-2 ] وقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه :114 ] ، وأما قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة :11 ] وقال : { اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر :42 ] .
فإن قيل : قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ }
هود :29 ] وذلك خلق منه . وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام :52 ] .
فالجواب{[4167]} : قد قيل لنوح : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[ نوح :1 ] فكان أوَّل أمره العذاب . وقيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء :107 ] ، وعاقبة نوح أن قال :
{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح :26 ] وعاقبة النّبي - صلى الله عليه وسلم - الشّفاعة . قال تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء :79 ] فما أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية ، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشّجر عليه ، وكلام البهائم ، والشَّهادة برسالته ، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات ، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله .
قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللهُ } هذه الجملة تحتملُ وجهين :
أحدهما{[4168]} : أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها .
والثاني : أنها بدلٌ من جملةِ قوله " فَضَّلْنا " . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي : مَنْ كَلَّمه الله كقوله : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ } [ الزخرف :71 ] .
وقُرئ بالنصبِ{[4169]} على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً ، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم .
وقرأ أبو المتوكل{[4170]} وابن السَّميفع : " كالَمَ اللهَ " على وزن فاعَلَ ، ونصبِ الجلالةِ ، و " كَلِيم " على هذا معنى مُكَالِم نحو : جَلِيس بمعنى مُجالِس ، وخليط بمعنى مخالطٍ . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله : " فَضَّلْنا " إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذي هو في حُكْمِ الغائِبِ .
اختلفوا في ذلك الكلامِ ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف ، ولا صوت قالوا : كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف ، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف .
وقال الماتريديُّ : سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت .
اختلفوا هل المُرادُ بقوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللهُ } هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل : موسى - صلى الله عليه وسلم - وحده ، وقيل : بل هو وغيره .
قالوا : وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون ، وسمع محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المِعراج بدليل قوله : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم :10 ] فإن قيل : قوله تعالى : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللهُ } إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم الله تعالى ، وقد جاء في القرآن ، مكالمة بين الله ، وبين إبليس ، حيث قال : { فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } إلى آخر الآيات [ الحجر :36-38 ] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ ، وبين إبليس ، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف ، فكيف حصل لإبليس ؟ فإن لم يوجب شَرَفاً ، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ النساء :164 ] .
أحدهما{[4171]} : أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة ، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة .
الثاني : هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّون من التَّقرُّب والإكرام ، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ{[4172]} والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام ، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ ، والإِهانة والطَّرد .
قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } .
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال .
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ ، أي : ذوي درجاتٍ .
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل " رفع " على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات .
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم ، والمعنى : على درجاتِ بعض .
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه ؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة ، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ .
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون " عَلَى " أو " فِي " ، أو " إلى " تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده .
أحدها : أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل ، ومناصبهم متفاوتة ؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً ، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ ، والنُّبوَّةِ ، ولم يحصل هذا لغيره ، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس ، والطير ، والريح ، ولم يحصل هذا لأبيه داود ، وخصّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس ، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع .
الثاني : أَنَّ المراد منه المعجزات ، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه ، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة ، واليد البيضاء ، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه ، وهو السّحر . ومعجزات عيسى ، وهي إِبراءُ الأَكمه ، والأَبْرَص ، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه ، وهو الطِّبُّ .
ومعجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة ، والبلاغة والخطَب ، والأَشعارِ ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القُوَّةِ .
الثالث : أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة ، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه ؛ علمت أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان جامعاً لِلْكُلِّ ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى ، وأقوى ، وقومه أكثر ، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر .
الرابع : أَنَّ المراد بقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ ، وإنما قال " وَرَفَعَ بَعْضَهُم " على سبيل الرَّمْزِ ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا الفعل ؛ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم ، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به ، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ ، فذكر زهيراً ، والنَّابغة ، ثم قال : " ولو شئت لذكرت الثَّالِث " أراد نفسه .
وقيل : المراد إدريس عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم :57 ] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ .
فإن قيل : المفهومُ من قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو المفهوم من قوله : { تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، فما فائدة التكرير ؟
فالجواب{[4173]} : أَنَّ قوله : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل ، حصل بدرجة ، أو بدرجات ، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات .
فإن قيل : قوله : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ }{[4174]} ] كلام كلي ، وقوله بعد ذلك { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللهُ } شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي ، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ ، يكون تكراراً .
فالجواب : أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله : " دَرَجَات " إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات ، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك .
قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } . فيه سؤالان{[4175]} :
السُّؤال الأَوَّل : قال في أوَّل الآية : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال : { مِّنْهُمْ مَن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ]{[4176]} ، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة{[4177]} ، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى .
والجوابُ : أَنَّ قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللهُ } أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً } فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة .
وأَمَّا قوله { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة ؛ لأن الضَّمير في قوله " وآتَيْنَا " ضمير التَّعظيم ، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء .
السُّؤال الثاني : لم خصَّ موسى ، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما ؟
والجواب : سبب التَّخصيص : أنَّ معجزاتهما أبهر ، وأقوى من معجزات غيرهما ، وأيضاً ، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان ، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما ، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما ، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما{[4178]} .
السُّؤال الثالث : تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن موسى صلى الله عليه وسلم أوتي أقوى منها ، أو مساوٍ .
والجواب : أنَّ المقصود من هذا الكلام : التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود ، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة ، وأعرضوا عنها .
السُّؤال الرابع : " البيِّنات " جمع قلَّة ، وذلك لا يليق بهذا المقام !
والجواب : لا نسلِّم أنه جمع قلَّة ، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام ، فأما إذا عرف بهما ؛ فإنه يصير للاستغراق ، ولا يدلُّ على القلَّة .
قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } " القُدُس " تثقله أهل الحجاز ، وتخففه تميم .
واختلفوا في تفسيره ، فقال الحسن : القُدُسُ ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف{[4179]} .
والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره ، ووسطه ، وآخره .
أمَّا أوله ؛ فلقوله تعالى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم :12 ] .
وأما الوسط ، فلأن جبريل علَّمه العلوم ، وحفظه من الأعداء .
وأما آخر أمره ، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء ، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؛ قوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [ النحل :102 ] .
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى{[4180]} .
وقال أبو مسلم{[4181]} : روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى .
قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللهُ } مفعوله محذوف ، فقيل : تقديره : ألاّ تختلفوا وقيل : ألاَّ تقتتلوا .
وقيل : أن يضطرَّهم إلى الإيمان ، وكلُّها متقاربة .
و " مِنْ بَعْدِهِمْ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه صلةٌ ، والضَّمير يعود على الرُّسل .
وقيل يعود على موسى ، وعيسى ، والاثنان جمع .
قال القرطبيُّ{[4182]} : والأوَّل ظاهر اللَّفظ ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي ، وهذا كما تقول : " اشتريت خيلاً ، ثمَّ بِعْتُهَا " . وهذه عبارة جائزة ، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النَّوازل{[4183]} ، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر بغياً وحسداً .
و { مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه بدلٌ من قوله : " مِنْ بَعْدِهِم " بإعادة العامل .
والثاني : أنه متعلِّقٌ باقتتل ، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن التَّقاتل والاختلاف . والضَّمير في " جَاءَتْهم " يعود على الَّذين من بعدهم ، وهم أمم الأنبياء .
تعلق هذه الآية بما قبلها : أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات ، وأوضحوا الدَّلائل ، والبراهين ، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا ، وتحاربوا ، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره .
ثم قال : { وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } وإذا اختلفوا ، فلا جرم اقتتلوا .
وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي ؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل ، والمعنى : أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة ، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره ؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد{[4184]} دفعا للتَّسلسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب .
قوله : { وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ } وجه الاستدراك واضحٌ ، فإنَّ " لَكِنْ " واقعةٌ بين ضدّين ، إذ المعنى : ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا ؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا . وقال أبو البقاء{[4185]} رحمه الله : " لكنْ " استدراك لما دلَّ الكلام عليه ، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيَّن الاختلاف بقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ } .
وكسرت النُّون من { وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ } لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
فَلَسْتُ بِآتِيهِ ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ *** وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ{[4186]}
قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري .
وقال الواحدي{[4187]} - رحمه الله - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام ، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله ، ولا قدر .
الثاني : أنها ليست لتأكيد الأولى ، بل أفادت فائدة جديدة ، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما ، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية ، والتقدير في الأولى : وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، وفي الثانية : ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن شاء أمرهم بذلك .
قوله : { وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من اختلافهم ، فيوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله ، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن .
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك ، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات .
وقالت المعتزلة{[4188]} : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيفٌ لوجهين :
والثاني : أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات ؛ لأنه يصير معنى الآية : أنَّه يفعل ما يفعله .
سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : يا أمير المؤمنين ؛ أخبرني عن القدرِ ! فقال : طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه . فأعاد السُّؤال فقال : بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه ، فأعاد السُّؤال ، فقال : " سِرُّ الله في الأَرْضِ ، قَد خَفِي عَلَيْكَ ، فَلاَ تَفْتِشْهُ " {[4189]} .