قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } " كَيْفَ " كلمة تعجُّب ، وهو على الله - تعالى - محال ، والمراد منه التغليظ والمنع ؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه ، وتُقَرِّر الحُجج ، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه .
قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَأهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي " {[3]} .
قوله : { وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ } جملة حالية ، من فاعل : " تَكْفُرُونَ " .
وكذلك قوله : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين ؟
والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به .
وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به .
ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ . وقيل : ومن يؤمن بالله . وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن .
والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن ؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة ؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً .
لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ- *** -سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا{[4]}
وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع .
وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً .
فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا *** فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا{[5]}
ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ]
أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر *** يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ{[6]}
وفي الحديث - في النساء : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ{[7]} " وهو الأبيض الرجلين .
قال صلى الله عليه وسلم : " " المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ " .
قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم ؟ قال " الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ {[8]} " .
وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان{[9]} ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ " والمراد منه : التقليل .
قوله : " فقد هدي " جواب الشرط ، وجيء في الجواب ب " قد " دلالةً على التوقُّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية .
والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح . وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله .
احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى ؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } [ المائدة : 16 ] وهذا اختيار القفال .
الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل ؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك .
الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة .
الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " فقد هدي " أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصِلاً ؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.