اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } " كَيْفَ " كلمة تعجُّب ، وهو على الله - تعالى - محال ، والمراد منه التغليظ والمنع ؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه ، وتُقَرِّر الحُجج ، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه .

قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَأهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي " {[3]} .

قوله : { وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ } جملة حالية ، من فاعل : " تَكْفُرُونَ " .

وكذلك قوله : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين ؟

والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به .

وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به .

ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ . وقيل : ومن يؤمن بالله . وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن .

والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن ؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة ؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً .

قال : [ الكامل ]

لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ- *** -سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا{[4]}

وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع .

وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً .

قال : [ الرجز ]

فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا *** فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا{[5]}

ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ]

أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر *** يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ{[6]}

وأبو مالك كنية الجوع .

وفي الحديث - في النساء : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ{[7]} " وهو الأبيض الرجلين .

وقيل : الأبيض الجناحَين .

قال صلى الله عليه وسلم : " " المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ " .

قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم ؟ قال " الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ {[8]} " .

وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان{[9]} ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ " والمراد منه : التقليل .

قوله : " فقد هدي " جواب الشرط ، وجيء في الجواب ب " قد " دلالةً على التوقُّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية .

والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح . وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله .

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى ؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً :

أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } [ المائدة : 16 ] وهذا اختيار القفال .

الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل ؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك .

الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة .

الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " فقد هدي " أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصِلاً ؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .


[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.