اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (191)

قوله : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ } فيه خمسة أوجهٍ :

أحدها : أنه نعت لِ { لأُوْلِي الأَلْبَابِ } فهو مجرور .

ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين .

ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني . وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم .

رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا . قاله أبو البقاء .

خامسها : أنه بدل من { لأُوْلِي الأَلْبَابِ } ذكره مكِّيٌّ ، والأول أحسنها .

و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالانِ من فاعلٍ { يَذْكُرُونَ } و { وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى :

{ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة .

و { قِيَاماً وَقُعُوداً } جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا .

فصل

قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وابنُ عباس ، والنَّخعيّ ، وقتادة : هذا في الصلاة ، يُصلي قائماً ، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ{[6290]} .

وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال ، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات{[6291]} .

قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان :

أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلَّ لها .

والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ ، عطفاً على { قِيَاماً } أي : يذكرونه متفكِّرين .

فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو ؟ .

فالجوابُ : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال .

و " خَلْق " فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر على أصْله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله .

الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع اللَّهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها .

وقال أبو البقاء : " وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى " .

قال شِهَابُ الدّينِ{[6292]} : " وهذا كلامٌ متهافتٌ ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه ، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل " .

فصل

{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وما أبدع فيهما ؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع ، [ ويعرفوا ]{[6293]} أن لها مُدَبِّراً حَكِيماً .

وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة ، وتُحْدِث للقلب خشية ، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات ، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفِكْرة .

واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين :

دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ ، كما قال تعالى :

{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض ؛ لأن دلالتها أعجب ، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها ، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين ، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى ، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر ، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً ، وأسراراً عجيبةً ، وأن الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض ، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم ، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين ، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة -وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول : { سُبْحَانَكَ } والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد ، ويشتغل بالدعاء ، فيقول : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .

قوله : { رَبَّنَآ } هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان :

أظهرهما : أنها حال من فاعل " يَتَفَكَّرُونَ " أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا ، وإذا أعربنا " يَتَفَكَّرُونَ " حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين .

والوجه الثاني : أنها في محل رفع ؛ خبراً لِ " الَّذِينَ " على قولنا بأنه مبتدأ ، كما تقدم نقله عن أبي البقاءِ .

قوله : " هَذَا " إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه ب " هذا " - أن يكون مصدراً على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظرٌ .

أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ .

قوله : " بَاطِلاً " في نصبه خمسةُ أوجهٍ :

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خَلْقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر .

الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به ، وهو " هَذَا " .

الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ .

الرابع : أنه مفعول من أجله ، و " فاعل " قد يجيء مصدراً ، كالعاقبة ، والعافية .

الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " خلق " قالوا : و " خلق " إذا كانت بمعنى " جَعَلَ " التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين . وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ ، بل المعروف أن " جعل " إذا كانت بمعنى " خلق " تعدت لواحدٍ فقط .

وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ " هَذَا " وهي حالٌ لا يُستغنَى عَنْهَا ؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .

قوله : { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : { رَبَّنَآ } وبين قوله : { فَقِنَا } .

وقال أبو البقاء : " دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ ، والتقدير : إذا نزهناك ، أو وَحَّدْناك فقنا " .

وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبب فيها ظاهر ؛ تسبب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طلبهم وقاية النار .

وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه { سُبْحَانَكَ } من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا . وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء .

فصل

قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنّ كلَّ ما يفعله الله تعالى ، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ، ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان قد خلقهما باطلاً ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وقوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً .

وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ ، مُتْقَن ، ألا ترى إلى قوله تعالى :

{ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] ؟ وقوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] . فكان المرادُ من قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة .

فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ :

الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو ، المتلاشي ؛ لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل هذا الخلق ، وذلك باطلٌ .

الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ . فعلى قولنا يحسن النظم ، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ .

الثالثُ : أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى ، فقال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى :

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ }

[ الدخان : 38- 39 ] وقال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [ المؤمنون : 115 و 116 ] . أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً ، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى .

فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهدة بأنّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللَّهِ ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة ، وذلك باطلٌ ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب ، بل خلقته صلباً محكماً ؟ وقوله : { سُبْحَانَكَ } معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً ، شديدةً ، باقيةً ، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به .

وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا فسَّرناه بقولنا ، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله : { سُبْحَانَكَ } اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، فقال : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وهذا الوجه أحسن في النظم .

وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث ، واللعب ، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه ، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ .

وقوله : { سُبْحَانَكَ } إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار حكمة اللَّهِ في خلق السمواتِ والأرضِ . يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر .

والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه ، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ ، ثم يذكر بعده الدعاء ، كهذه الآيةِ .


[6290]:تقدم.
[6291]:في أ: الآيات.
[6292]:ينظر: الدر المصون 2/283.
[6293]:في أ: ويقولون.