هذا أيضاً من جملة أذاهم ؛ لأنهم يفرحون بما أتَوْا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى ، ولا شك أن الإنسانَ يتأذَّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ ، فأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها .
قوله : و { لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر " يَحْسَبَنَّ " و " فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ " - بالياء فيهما ، ورفع ياء " تَحْسَبَنَّهُم " {[6274]} وقرأ{[6275]} الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ ، وفتح الباء فيهما معاً ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وتاء الخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما معاً ، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً{[6276]} ، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما ، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيها خمسةُ أوجهٍ ، وذلك : لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَل الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، أو إلى الموصولِ ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره - ففي المسألة وجهانِ :
أحدهما : أنَّ " الَّذِينَ " مفعول أوّل ، والثاني محذوفٌ ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه ، وهو " بِمَفَازَةٍ " والتقدير : لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضميرِ " الَّذِينَ " ومفعولاه الضمير المنصوب ، و " بِمَفاَزَةٍ " .
الثاني : أن " الَّذِينَ " مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو " بِمَفَازَةٍ " الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف ؛ لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم ، وهذا بعيد جِداً ، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة ؛ والسببية فيها ظاهرة .
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ :
أولها : أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه ، اختصاراً ؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما ، تقديره : ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين .
بأيِّ كِتَابٍ ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ *** تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ{[6277]}
أي : وتحسب حبهم عاراً ، فحذفت مفعولي الفعل الثاني ؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ .
ثانيها : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا .
قال أبو علي " تَحْسَبَنَّ " لم يقع على شيء و " الَّذيِنَ " رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً ، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة ، نحو قوله : [ الطويل ]
وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ *** عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلاَئِصا{[6278]}
المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، الواحد : مُذَك مثل المُخْلف من الإبل وفي المثل : جريُ المذكيات غِلاب .
والمُسْنفات : اسم مفعول ، يقال : سنفت البعير أسنفه ، سنفاً ، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ ، وتجنب الخيل ، تقول : الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ : العربُ تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ .
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة ، لا مفعول لها .
ثالثها : أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً ، والثاني هو نفس " بِمَفَازَةٍ " ويكون " فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ " توكيداً للفعل الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة - : " على أن الفعل لِ { الَّذِينَ يَفْرَحُونَ } والمفعول الأول محذوف ، على معنى : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى : لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و " فلا يحسبنهم " تأكيد " .
قال أبو حيّان : " وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره : لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [ آل عمران : 178 ] وأن هذا التقدير لا يصح " .
قال شهابُ الدِّينِ : قد تقدَّم ذلك والجواب عنه ، لكن ليس هو في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } بل في قوله : { ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله } من قراءة من قرأ بياء الغيبة ، فهناك ردَّ عليه بما قال ، وقد أجيب عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد .
ويجوز أن يقالَ - في تقرير هذا الوجه الثالث - : أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن " بِمَفَازَةٍ " مفعول ثانٍ للفعل الأول ، حذفت من الفعل الثاني ، و " هُمْ " في " فلا يحسبنهم " مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوفٌ من الأولِ .
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول .
وقال مكِّيٌّ : إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ .
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد . وكذلك قال بعضهم : والثاني مُعاد على طريق البدل ، مشوباً بمعنى التأكيدِ .
وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً ، أو بدلاً - فالفاء زائدة ، ليست عاطفة ولا جواباً .
قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } أصله : تحسبونَنَّهم ، بنونين - الأولى نون الرفع ، والثانية للتوكيد - وتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة . وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن ، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال . لو قلت : " أكرمتُني " ، أي : " أكرمت أنا نفسي " لم يجز .
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ ، أو بدلٌ منه ، والفاء زائدة ، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعلين مسندان للموصول ؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر : [ الكامل ]
لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ *** فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي{[6279]}
لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا *** فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ{[6280]}
حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ *** فَيَقُلْنَ : لا تَبْعَدْ ، وَقُلْتُ لَهُ : ابْعَدِ{[6281]}
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ ، إنما قال به الأخفش .
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول ، أو بدلاً منه ؛ لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا ، وقال أبو علي في الحُجة : إن الفاءَ زائدة ، والثاني بدلٌ من الأولِ ، قال : " وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ " .
وفيه نظرٌ ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما .
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ .
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ ، أي : لا يحسبن الرسولُ ، أو حاسبٌ .
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ ، كالكلام في القراءة التي قبلها ، والثاني من الفعلين تأكيدٌ ، أو بدلٌ ، والفاءُ زائدةٌ -على هاتينِ القراءتينِ - لاتحادِ الفاعلِ .
وقرأ النَّخعِيُّ{[6282]} ، ومروان بن الحكمِ " بما آتوا " ممدوداً ، أي : أعْطُوا ، وقرأ علي بن أبي طالبٍ " أوتوا " مبنياً للمفعول{[6283]} .
قال ابنُ عبّاسٍ : قوله : { يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } هم اليهودُ ، حرَّفوا التوراةَ ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ{[6284]} .
وقيل : سأل رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم اليهودَ عن شيء من التوراة ، فأخبروه بخلافه ، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك .
وقيل : فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيمَ .
وقيل : هُم المنافقونَ ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الإيمانِ .
وقيل : هم بعض المنافقينَ ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَزْو ، وفرحوا بقعودهم ، واعتذروا ، وطمعوا أن يُثْنَى عليهم ، كما يُثْنَى على المجاهدين .
وقيل المراد كتم اليهود الميثاق المأخوذ عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفَرِحوا بذلك الكتمان ، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ .
قال الفرّاءُ : " يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا " أي : بما فعلوا ، كقوله :{ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }
[ مريم : 27 ] أي : فَعَلْتِ ، وقوله : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] . قال الزمخشريُّ : " أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى :{ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }
[ مريم : 61 ] ويدل عليه قراءة أبَي{[6285]} يفرحون بما فَعَلوا " .
قوله : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قد تقدم معناه في كيفية النظم { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي : بمنجاة من العذاب ، من قولهم : فاز فلان - إذا نجا - أي : ليسوا بفائزين .
وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوَّز الرجل - إذا مات - .
وقال الفرّاءُ : أي : ببعيد من العذاب ؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه ، ثم حقَّق ذلك بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قوله : { مِّنَ الْعَذَابِ } فيه وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة لِ " مَفَازَةٍ " أي : بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا " مَفَازَةٍ " مكاناً ، أي بموضع فَوْز .
قال أبو البقاء : " لأن المفازةَ مكان ، والمكانُ لا يعملُ " .
يعني فلا يكون متعلقاً بها ، بل بمحذوف ، على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل ؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها { مِّنَ الْعَذَابِ } اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره : بمفازة منجيةٍ من العذابِ ، وفيه الإشكالُ المعروفُ ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً .
الثاني : أن يتعلق بنفس " مفازة " على أنها مصدر بمعنى الفَوْز ، تقول : فزت منه أي : نَجَوْت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء ؛ لأنها مبنيةٌ عليها ، وليست الدالة على التوحيد .
فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ *** عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ{[6286]}
فأعمل " رهبة " في " عقابك " وهو مفعول صريح ، فهذا أولى .
قال أبو البقاء : " ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ " .
فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق ، فلا حاجة إليه ؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً .