قرأ الكسائي بفتح الهمزة{[5264]} ، والباقون بكسرها ، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف ، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى .
قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } توحيد ، وقوله : " قائِماً بِالقِسْط " تعديلٌ ، فإذا أردفه بقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده " .
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه :
أحدها : أنها بدل من { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } - على قراءة الجمهورِ - في أن { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه من بدل الشيء من الشيء ، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ ، والتوحيد ، وهو هو في المعنى .
والثاني : أنه بدل اشتمال ؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ .
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ : أن يكون " إنَّ الدِّينَ " بدلاً من قوله " بِالْقِسْطِ " ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن تجعله بدلاً من لفظه ، فيكون محل " إنَّ الدِّينَ " الجر .
والثاني : أن تجعلَه بدلاً من موضعه ، فيكون محلها نصباً ، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه .
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى ؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل ، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة - .
ويجوز أن يكون بدل اشتمال ؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي ، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها .
قال أبو حيّان : " وهو - أبو علي - معتزليّ ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره ، وليس بجيد ؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو : عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي ، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ ، وتقريب هذا المثال : ضرب زيدٌ عائشة ، والعُمرانِ حَنِقاً أختك ، فحَنقاً ، حال من " زيد " و " أختك " بدل من " عائشة " ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز - ؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه " .
قوله عرف زيد هو نظير " شَهِدَ اللهُ " ، وقوله : أنه لا شجاع إلا هو نظير { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وقوله : وبنو دارم نظير قوله : " وَالْمَلاَئِكَةُ " وقوله : ملاقياً للحروب نظير قوله : " قَائِماً بِالْقِسْطِ " وقوله : لا شجاع إلا هو نظير قوله : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله : البطل الحامي نظير قوله " الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وقوله : إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } .
قال شهابُ الدين : " ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ ، حتى يقول : ليس بجيِّد ، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه ، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني - : إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر ؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض ، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده " .
ثم قال أبو حيّان : " قال الزمخشريُّ : وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والمبدَل هو المبدَل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل " فقال : فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاء .
الثالث - من الأوجه - : أن يكون " إنَّ الدِّينَ " معطوفاً على { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } حذف منه حرف العطف ، قاله ابن جرير ، وضعفه ابن عطية ، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه .
قال أبو حيان : " ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً ، وعَمْرو سَمَكاً ، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب " خبزاً " وفصلت بين " خبزاً " و " سمكاً " ب " عمرو " ؛ إذ الأصل - قبل الفصل -أكل زيد وعمرو خبزاً وسمكاً .
الرابع : أن يكون معمولاً لقوله : { شَهِدَ اللَّهُ } ، أي : شهد الله بأن الدين ، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب ، أو الجر .
فإن قلت : إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس ، وهي كسر " أنّ " الأولى ، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين " شَهِدَ " وبين معموله كما تقدم ، وأما على قراءة فتح " أن " الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج ؛ لأن الأولى معمولة له ، استغنى بها .
فالجوابُ : أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى ، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ؛ لأنه لا إله إلا هو ، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ ، وقال : " هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي - : إن شئت جعلت " أنه " على الشرط ، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ، ويكون " إنَّ " الأولى يصلح فيها الخفض ، كقولك : شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام " .
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه ، ومعنى قوله على الشرط ، أي : العلة ، سمَّى العلةَ شرطاً ؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علته ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين .
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم " الله " ، ولكان التركيب : إن الدين عنده الإسلام ؛ لأن الاسم قد سَبَق ، فالوجه الكناية .
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية ، وأنشد : [ الخفيف ]
لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ *** نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا{[5265]}
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم .
الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ " الْحَكِيم " ، كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ف " حَكِيم " مثال مبالغة ، مُحَوَّل من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عَدَل عن لفظ " حاكم " إلى " حكيم " - مع زيادة المبالغة - ؛ لموافقة " الْعَزِيز " ، ومعنى المبالغة : تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام ؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك ، قاله أبو حيّان ، ثم قال : فإن قلتَ : لم حَمَلْتَ " الْحَكِيم " على أنه مُحوَّل من " فاعل " إلى فعيل ؛ للمبالغة ، وهَلاَّ جعلته " فَعِيلا " ، بمعنى " مُفْعِل " فيكون معناه " الْمُحكِم " كما قالوا في " أليم " : إنه بمعنى " مُؤْلِم " وفي " سميع " من قول الشاعر : [ الوافر ]
أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع *** . . . {[5266]}
فالجوابُ : أنا لا نسلم أن " فَعِيلا " يأتي بمعنى " مفعل " ، وقد يؤول " أليم " و " سميع " على غير " مفعل " ، ولئن سلمنا ذلك ، فهو من الندور والشذوذ ، بحيث لا يَنْقاس ، [ وأما ] {[5267]} " فعيل " محوَّل من " فاعل " ؛ للمبالغة فهو منقاس ؛ كثير جداً ، خارج عن الحصر ، كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً ، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ ، الباقي على سجيته لم يفهم من " حكيم " إلا أنه محوَّل من " فاعل " ؛ للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } [ المائدة : 38 ] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فقيل له : التلاوة : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فقال : هكذا يكون ، عَزَّ فَحَكَم فقط ، ففَهِم من " حكيم " أنه محوَّل - للمبالغة - من " حاكم " ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه ، وهذا تخريج سَهْل ، سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها ، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل { إِنَّ الدِّينَ } معمولاً لِ " شَهِدَ " - كما فهموا - وأن { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها ، وبين معموله - بل نقول : معمول " شَهِدَ " هو " إنَّهُ " - بالكسر - على تخريج من خرج أن " شَهِدَ " - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده ؛ إجراءً له مُجْرَى القول .
أو نقول : إنه معموله ، وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي ، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول : شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ ، فتعلق ب " إنَّ " مع وجود اللام ؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت " إنَّ " ، فقلت : شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ ، فمن قرأ بفتح " أنَّه " ، فإنه لم يَنْو التعليقَ ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي كما ذكرنا .
قال شهاب الدينِ{[5268]} : وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه : " وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } هو معمول " شَهِدَ " ويكون في الكلام اعتراضان :
أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } .
والثاني بين المعطوف والحال وبين المفعول لِ " شَهِدَ " ، وهو { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وإذا أعربنا { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات ، انظر هذه التوجيهات البعيدة ، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ ، وحِفْظِ أشعارِها " .
قال شهاب الدينِ{[5269]} : " ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة ، وعدم معرفتهم بكلام العرب ، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح ، غير مقبول ولا مُسَلَّم ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ ، وكيف يجهل الفارسي{[5270]} والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك ؟ وكيف يَتَبَجَّحُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء ؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم ، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم " .
قوله : { عِنْدَ اللَّهِ } ظرف ، العامل فيه لفظ " الدِّين " ؛ لما تضمنه من معنى الفعل .
قال أبو البقاء : " ولا يكون حالاً ؛ لأن " إنَّ " لا تعمل في الحال " .
قال شهاب الدين{[5271]} : قد جوز في " ليت " وفي " كأن " أن تعمل في الحال .
قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه ، ف " إن " للتأكيد ، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن " الهاء " التي للتنبيه .
قيل : هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة ، و " هاء " ليست بعاملة ، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء .
الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة ، قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء : 94 ] ، أي : لمن صار منقاداً لكم ، ومتابعاً ، والإسلام هو الدخول في السلم ، يقال : أسلم ، أي : دخل في السلم ، كقولهم : أشتى ، وأقحط ، وأصل السِّلم : السلامة ، وقال ابن الأنباري : " المُسْلِم " معناه المخلص لله عبادته ، من قولهم : سَلِم الشيء لفلان ، أي : خَلصَ ، فالإسلام معناه : إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى " .
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان ؛ لوجهين :
أحدهما : هذه الآية ؛ لأن قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل- .
الثاني : قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى .
قال القرطبيُّ : الإسلام هو الإيمان ، بمعنى التداخل ، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر ، كما في هذه الآية ؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال ، ومنه قوله - عليه السلام- : " الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ ، وقَوْلٌ باللِّسَان ، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ " {[5272]} أخرجه ابن ماجه .
فإن قيل : قوله تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] صريح في أن الإسلام غير الإيمان .
فالجواب : أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر ، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر ؛ لأنه - تعالى - قال : { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا ، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن ، وتارة في الباطن والظاهر ، فالأول هو النفاق ، وهو المراد بقوله : " قَالَتِ الأعْرَابُ " ؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمْنا في الظاهر .
قال قتادة - في قوله تعالى- : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ، شهادة ألا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه ، لا يقبلُ غيرَه ، ولا يَجْزِي إلا به{[5273]} .
روى غالب القطان ، قال : أتيتُ الكوفةَ في تجارة ، فنزلتُ قريباً من الأعمش ، فكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ ، أردت أن أنحدر إلى البصرة ، قام من الليل يتهجد ، فمرَّ بهذه الآيةِ :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] قال الأعمش : وأنا أشهدُ بما شَهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي - عند الله - وديعة ، { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } - قالها مراراً .
قلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فصليْت معه ، وودعته ، ثم قلت : إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا ، فما بلغك ؟ قال : واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ ، وأقمتُ سنةً ، فلمَّا مضت السنةُ ، قلتُ : يا أبا محمد ، قد مضت السنةُ ، فقال : حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى : إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً ، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ " {[5274]} .
قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام ، أي : وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم .
وقال الربيع : إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل ، فاستَوْدَعَهم التوراة ، واستخلف يُوشَعَ بن نون ، فلما مضى القرنُ الأولُ ، والثاني ، والثالث ، وقعت الفرقةُ بينهم ، -وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ{[5275]} ، وذلك { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } يعني بيان ما في التوراة ، { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : طلباً للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرةَ .
قال محمدُ بنُ جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران{[5276]} ، معناها : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } يعني الإنجيل في أمر عيسى ، وفرَّقوا القول فيه : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } بأن الله واحد ، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله ، { بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، أي : المعاداة والمخالفة .
وقيل : المراد اليهود والنصارى ، واختلافهم هو قولُ اليهودِ : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، وقول النصارى : المسيح ابنُ الله ، وأنكروا نبوة محمد ، قالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ، لأنهم أميُّونَ ، ونحن أهل الكتاب .
وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم ؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين ، والعناد على الجمع العظيم لا يصح . [ وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب ، وهو جمع عظيم .
وقال الأخفش : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
وقال ابن عمر وغيره : أخبر - تعالى - عن ] {[5277]} اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا .
وفي الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
أحدها : أنه مفعول من أجله ، العامل فيه " اخْتَلَفَ " والاستثناء مُفَرَّغ ، والتقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره ، قاله الأخفش ، ورجحه أبو علي .
الثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من " الذين " كأنه قيل : ما اختلفوا إلا في هذه الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً .
الثالث : أنه منصوب على المصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، كأنه لما قيل : { وَمَا اخْتَلَفَ } دل على معنى : وما بغى ، فهو مصدر ، قاله الزّجّاجُ ، ووقع بعد " إلا " مستثنيان ، وهما : " مِنْ بَعْدِ " و " بَغْياً " وقد تقدم تخريج ذلك .
قال الأخفش : قوله : " بَغْياً " من صلة قوله : " اخْتَلَفُوا " ، والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي .
قال القفّالُ : وهذا أجودُ من الأول ؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم ، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي .
قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ } " مَنْ " مبتدأ ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني : فعل الشرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر ، أي : سريع الحساب له .
الأول : المعنى : فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً ، فيحاسبه ، أي : يُجازيه على كُفْره .
الثاني : أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره ، بإحصاء سريع ، مع كَثْرَةِ الأعمال .