اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

قوله : { وَرَسُولاً } فيه وجهان :

أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على " فَعُول " كالصَّبور والشَّكُور .

والثاني : أنه - في الأصل - مصدر ، ومن مَجِيء " رسول " مصدراً قوله : [ الطويل ]

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ *** بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ{[5449]}

وقال آخر : [ الوافر ]

ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً *** بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ{[5450]}

أي أبلغه رسالة .

ومنه قوله تعالى : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ . وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب " رَسُولاً " ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :

أحدها : أن يكون معطوفاً على " يُعَلِّمُهُ " - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وَجِيهاً " - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً .

قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ .

وقال أبو حيّان : " وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن " وَيُعَلِّمُهُ " معطوف على " وَجِيهاً " ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب " ويعلمه " {[5451]} " .

الثاني : أن يكون نَسَقاً على " كَهْلاً " الذي هو حال من الضمير المستتر في " وَيُكَلِّمُ " ، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ ، واستبعده أبو حيّان ؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه .

قال شهاب الدين{[5452]} : " ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ " .

فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة ، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، وقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .

وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ .

الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولاً ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب . وهذا كما قالوا في قوله : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] وقوله : [ مجزوء الكامل ]

يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا{[5453]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً *** . . . {[5454]}

وقول الآخر : [ الوافر ]

. . . *** وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا{[5455]}

أي : واعتقدوا الإيمانَ ، وحاملاً رُمْحاً ، وسقيتها ماءً بارداً ، وكحَّلْنَ العيون . وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .

الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ " رسول " ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى .

الخامس : أن الرسول - فيه - بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريُّ : " فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل " وَرَسُولاً " و " مُصَدِّقاً " من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حَمله عليها ؟

قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يُضمر له " وأرسَلْت " - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يديَّ .

الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يدي " . اه .

إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب ، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم ؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير ؛ ليناسب الضمائر .

وقال أبو حيان : " وهذا الوجه ضعيف ؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة " .

واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : " إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً ل " رَسُولاً " أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور " .

الثالث : أن يكون حالاً من مفعول " وَيُعَلِّمُهُ " وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولاً . قاله الأخفشُ ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مَرْجُوحٌ .

وعلى الثاني وهو كون " الرسول " مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ " يُعَلِّمُهُ " - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً ، أي : يعلمه الرسالة أيضاً .

الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل .

وقرأ اليزيديُّ " وَرَسُولٍ " بالجر{[5456]} - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله : " بِكَلِمَةٍ " أي : يبشرك بكلمة وبرسول .

وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج .

قوله : { إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وَجْهَانِ :

أحدهما : أن يتعلق بنفس " رسول " إذْ فعله يتعدى ب " إِلَى " .

والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " رَسُولاً " فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديِّ .

فصل

هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل ، وقال بعض اليهودِ : إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين .

قيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ : وفي حديث أبي ذر الطويل : " . . . وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى ، وآخرهُم عِيسَى " . {[5457]}

قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } قرأ العامَّةُ " أنِّي " بفتح الهمزة ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض - ، إذ الأصل : بأني ، فيكون " بأنَّي " متعلِّقاً ب " رَسُولاً " وهذا مذهب الخليلِ والكسائي .

والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :

الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين : سيبويه والفرّاء .

الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : يذكر ، فيذكر صفة ل " رَسُولاً " حُذِفَت الصفة ، وبقي معمولُها .

الثالث : أنه منصوب على البدل من " رَسُولاً " ، أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به ، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم .

وقرأ بعضهم بكسر الهمزة{[5458]} ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنها على إضمار القول ، أي قائلاً : إني قد جئتكم ، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى ، وأبقي معموله .

والثاني : أن " رَسُولاً " بمعنى ناطق ، فهو مُضَمَّن معنى القول ، وما كان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول . وهذا مذهب الكوفيين .

قوله : { بِآيَةٍ } يحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ ، على أنه حال من فاعل " جِئْتُكمُ " ، أي : جئتكم [ ملتبساً بآية ] {[5459]} .

والثاني : أن يكون متعلقاً بنفس المجيء ، أي : جاءتكم الآية . . والآية : العلامة .

فإن قيل : لم قال " بِآيَةٍ " وقد أتى بآياتٍ ؟

فالجوابُ : أن المراد بالآية : الجنس .

وقيل : لأن الكل دل على شيء واحدٍ ، وهو صدقه في الرسالة .

قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة ل " آيَةٍ " فيتعلق بمحذوف ، أي : بآية من عند ربكم ، ف " مِنْ " للابتداء مجازاً ، ويجوز أن يتعلق { مِّن رَّبِّكُمْ } بنفس المجيء - أيضاً .

وقدر أبو البقاء الحال - في قوله : " بِآيَةٍ " - بقوله : " محتجاً بآيةٍ ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن ، إلا الأكوان المُطْلَقَة " .

وقرأ الجمهور " بِآيةٍ " - بالإفراد - في الموضعين ، وابن مسعود{[5460]}- : بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين .

قوله : { أَنِي أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر{[5461]} الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق .

الثاني : أنه على الاستئناف .

والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : " بِآيَةٍ " ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام .

ونظيره قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ف " خَلَقَهُ " مفسرة للمثل ؛ ونظيره - أيضاً قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ المائدة : 9 ] ثم فسر الوعد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف ؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه ، مفسِّر له .

وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :

أحدها : أنها بدل من { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك ؛ لأن حكمها حكمها .

الثاني : أنها بدل من " بِآيَةٍ " فيكون محلُّها الجَرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات .

وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس .

الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال ذلك .

الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل ، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال ، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ .

وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف .

قوله : { أَخْلُقُ لَكُم } أقدِّر لكم وأصَوِّر ، وقد تقدم في قوله { يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ، ويدل عليه وُجُوهٌ :

أحدها : قوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] أي : المقدِّرين ، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية .

وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب ، قال تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 137 ] وقال : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا }

[ العنكبوت : 17 ] وقال : { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } [ ص : 7 ] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً ، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره .

وثالثها : هذه الآية .

ورابعها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ } [ البقرة : 29 ] إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : " خلق " على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك بَاطِلٌ ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض .

وخامسها : قول الشاعر : [ الكامل ]

وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي{[5462]}

وقال الآخر : [ البسيط ]

وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ *** أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ{[5463]}

وسادسها : أنه يقال : خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس ، والخَلاَق : المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي : له هذا المقدار من الاستحقاق ، و الصخرة الخَلْقاء : الملساء ؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية .

وقال أبو عبد الله البصريُّ : لا يجوز إطلاق " الخالق " على الله - تعالى - في الحقيقة ؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل ، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ .

وأجيب بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [ فاطر : 3 ] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن ، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ .

إذا عرفت هذا فقوله : { أَنِي أَخْلُقُ لَكُم } معناه : أقَدِّر وأصَوِّر .

قوله : { لَكُمْ } متعلق ب " أخلُقُ " واللام للعلة ، أي : لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم ، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً ، بل أحداثها . و { مِّنَ الطِّينِ } متعلق به - أيضاً - و " مِنْ " لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان تساهل ؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه .

قوله : { كَهَيْئَةِ } في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير . والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً ، ثم أطلِقَت على المفعول - أي : المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً ، والمصدر : التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة .

ويقال : هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] ، والطين معروف ، يقال : طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي : جبله عليه ، والنفخ مَعْرُوفٌ .

الثاني : أن الكاف مفعول به ؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ . وقد تقدم ذلك .

الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ : " ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ " .

وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى ؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم .

قال الزمخشري : أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ . وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : " أقدر " تفسير للخلق ؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري - تعالى - .

وقرأ الزهريُّ : " كَهَيْئَةِ " - بنقل حركة الهمزة إلى الياء .

وقرأ أبو جعفر : " كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ " . {[5464]}

قوله : { فَأَنْفُخُ فِيهِ } في هذا الضمير ستة أوجُهٍ :

أحدها : أنه عائد على الكاف ؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير .

الثاني : أنه عائد على " هَيْئَةِ " ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [ النساء : 8 ] ثم قال { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فأعاد الضمير في { مِنْهَا } على { القِسْمَةَ } لما كانت بمعنى المقسوم .

الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير .

الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ . وهو أني أخلق . ويكون الخلق بمنزلة المخلوق .

الخامس : أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأن المعنى : أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير . قاله الفارسي ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك .

السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديُّ ، قال : " ولا يجوز أن تعود الكناية على " الطِّينِ " لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين " .

وفي هذا الرَّد نَظَر ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم ، بل المراد بعضه . ولذلك أدخل عليه " مِنْ " التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال ، ولكنَّ الواحدي جعل " مِنْ " في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظَّاهِرُ .

قال أبو حيّان : " وقرأ بعض القُرَّاء " فأنْفَخَهَا{[5465]} " . أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة ؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة :

{ فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } [ المائدة : 110 ] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [ البسيط ]

مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَامَتْكَ نَائِحَةٌ *** وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ{[5466]}

وقول النابغة : [ البسيط ]

. . . *** كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما{[5467]}

يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفَحْمِ . وهي قراءة شاذة ، نقلها الفرَّاء " .

قال شهابُ الدين : " وعجبت منه ، كيف لم يَعْزُها ، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : " أعبدُ الله " فأنفخها " {[5468]} .

قوله : { فَيَكُونُ } في " يكون " وجهان :

أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون " طيراً " - على هذا - حالاً .

والثاني : أنها ناقصة ، و " طيراً " خبرها . وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ " طَائِراً " ؛ لأنه - حيئذٍ - اسم مشتق .

وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى " صار " الناقصة ، كقوله : [ الطويل ]

بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا *** قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا{[5469]}

أي صارت .

وقال أبو البقاء : " فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون " كان " هنا - التامة ؛ لأن معناها " صار " بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ،

و " طَائِراً " - على الأول - حالٌ ، وعلى الثاني - خَبَرٌ " .

قال شِهَابُ الدِّينِ : " ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى " صار " التامة التي معناها معنى " انتقل " بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى " صار " فإنما يعنون " صار " الناقصة " .

وقرأ نافع ويَعْقُوبُ{[5470]} فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون " طَيْراً " في الموضعين .

فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو " طَيْراً " - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد " طائر " - بالألف - فالرسم محتمل ، لا مُنَافٍ .

قال بعضهم كالشارح لما تقدم - : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم .

وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي : جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر ؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله : { مِّنَ الطَّيْرِ } - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى .

قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } يجوز أن يتعلق ب " طَيْراً " - على قراءة نَافِعٍ ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ؛ لأن " طَيْراً " اسم جِنْسٍ ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ " طَيْراً " أي : طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره .

قال أبو البقاء : متعلق ب " يكون " . وهذا إنما يظهر إذا جعل " كان " تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور .

فصل

روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً ، فصوَّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض . {[5471]}

قال وَهْبٌ : كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً ، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق .

قيل : خلق الخُفَّاش ، لأنه أكمل الطير خَلْقاً{[5472]} ، وأبلغ في القدرة ؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً ، وهي تحيض وتطهر وتَلِد .

وقيل : إنما طالبوه بخلق خُفَّاش ؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يُبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس سَاعةً ، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش . وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ .

فصل

قال بعض المتكلمين : دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ ، كأنه الريح ؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم ها هنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا ؟

ويقال : إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق ؛ لقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال . وقوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } معناه : بتكوين الله وتخليقه ؛ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 145 ] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ .

فصل

القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح .

قوله : " وأبرئ الأكمه " وأبرئ عطف على " أخْلُقُ " فهو داخل في خبر " أنِّي " . يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن ، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف . وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب ، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ .

وقال الأصمعيُّ : برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم ، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ .

قال الراغبُ : " بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ ، وَبَرَأت من فلان " ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه . وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما ، فالفتح ليس إلا .

والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته ؛ وكذلك التَّبَري والبراء .

فصل

من وُلِدَ أعْمَى ، يقال : كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه .

قال رؤبة : [ الرجز ]

فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ *** . . . {[5473]}

يقال : كمهتها ، أي : أعميتها .

قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما : " الأكمهُ : من وُلِدَ مطموس العينين " ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة .

قال الزمخشري : " ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير " .

قال الراغب : " وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه : أكمه " .

قال سُوَيد : [ الرمل ]

كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا *** . . . {[5474]}

قال الحسنُ والسُّدِّيُّ : هو الأعمى . {[5475]}

وقال عكرمةُ : هو الأعمش . {[5476]}

وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليل . {[5477]}

والبرص : داء معروف ، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه ، ويُقال : برص يبرص بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوَضَح ، وفي الحديث : " وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ " . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص . ويقال للقمر : أبْرَص ؛ لشدة بياضِه .

وقال الراغب " وللنكتة التي عليه " وليس بِظَاهِرٍ ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء ، والوزغ سامٌّ أبرص ، سُمِّيَ بذلك ؛ تشبيهاً بالبرص ، والبريص : الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص .

فصل

إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك .

قال وَهَبٌ : رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه ، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى ، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى .

قال الكلبيُّ : كان عيسى يُحْيي الموتَى ب " يا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، أخي عَازَرَ " وكان صديقاً له ، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا ، ومرَّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حَيًّا ، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك . وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر ، وعاش ، ووُلِدَ له . وأما ابنُ العجوزِ ، فإنه مر به محمولاً على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها .

فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسُهُ ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ ؟ فقال : يا رُوحَ اللهِ ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتاً يقول : أجِبْ رُوحَ اللهِ ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي . فسأله عن النزع ، فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم : صَدِّقُوه ؛ فإنه نبيٌّ ، فآمن به بعضُهم ، وكذَّبه بعضُهم ، وقالوا : هذا سحر .

فصل

قَيَّد قوله : { أَنِي أَخْلُقُ } بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم ، فأتَى به ؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية ، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ } ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله : { وَأُنَبِّئُكُم } من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه ، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين ؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن .

قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوز في " ما " أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - أو نكرة موصوفة . فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك " ما " في قوله : { وَمَا تَدَّخِرُونَ } محتملة لما ذكر . وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع ؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه .

قوله : { تَدَّخِرُونَ } قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ ، وأصله : تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر ، وهو التخبية ، يقال : ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً ، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي : خبَّأه .

قال الشاعر : [ البسيط ]

لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ *** مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها{[5478]}

الذخر : فُعْل بمعنى المذخور ، نحو الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول : وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله : من الثَّعَالِي ، وأرانيها ، يريد : الثعالب ، وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها .

ولما كان أصله : تَذْتَخِرون ، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال ، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً ، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً ، وأدغمها في الذال المعجمة - فصار اللفظ : تَدَّخرون .

وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون{[5479]} بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام ، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح .

وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني{[5480]} " تَذْخَرُونَ " - بسكون الذَّال المعجمة ، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل ، يقال : ذَخَرته - أي : خبَّأته .

ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة ، فيقول : اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة ، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر . وسيأتي إن شاء الله تعالى .

قال أبو البقاء : والأصل في " تَدَّخِرُونَ " تَذتَخِرون ، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالاً ؛ لأنها من مَخْرَجِها ؛ لتقرب من الذال ، ثم أبدِلت الذال دالاً ، وأدغمت . و " في بيوتكم " متعلق ب " تَدَّخِرُونَ " .

فصل

في الآية قولان :

أحدهما : قال السُّديُّ : كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبيُّ إلى أهله ، ويبكي لهم ، حتى يعطوه ذلك الشيءَ ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى ، وطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا . فقال : ما في هذا البيت قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت عليه أمُّه ، حملته على حمارٍ لها ، وخرجت هاربةً به إلى مصر{[5481]} .

قال قتادةُ : إنما كان هذا في المائدةِ ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد ، فخانوا وخبّؤوا ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا ، فمسخهم اللهُ خنازيرَ . {[5482]}

وقال القرطبيُّ : إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وبما ندخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان ، أكلتَ كذا وكذا ، وادَّخرت كذا وكذا ، وأنت يا فلان ، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا .

فصل

اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة ؛ وذلك لأن المنجِّمين الذين يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة ، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى .

قوله : { إنَّ فِى ذَلِكَ } إشارة إلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر .

وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته " لآياتٍ " - بالجمع ؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع ، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى ، وأن تكون من كلام الله تعالى .

قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبَّرتموها . وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل " آية " أي : لآية نافعة .

قال ابو حيّان : " حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط " وفيه نظر ؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .


[5449]:تقدم برقم 651.
[5450]:البيت للأشعر الجعفي ونسبه ابن دريد للأعشى وليس في ديوانه ينظر المفردات في غريب القرآن ص 384 والجمهرة 2/4 واللان (رسل) وزاد المسير 3/232 ومجاز القرآن 2/87.
[5451]:سقط في ب.
[5452]:ينظر: الدر المصون 2/101.
[5453]:تقدم برقم 160.
[5454]:تقدم برقم 160.
[5455]:عجز بيت للراعي النميري وصدره: وهزة نسوة من حي صدق *** ... وفي رواية أخرى: إذ ما الغانيات برزن يوما *** ... ينظر الصناعتين (136) والشذور (300) والمغني 2/357 وأساس البلاغة 1/394 ومشكل ابن قتيبة 213 ومعاني الفراء 3/123 وأوضح المسالك 1/299 والخصائص 2/432 والتصريح 1/346 والأشموني (443) والإنصاف 2/610 وتذكرة النحاة ص 617 والدرر اللوامع 2/169 والارتشاف 2/289 والهمع 1/222، 2/130 والدر المصون 2/101.
[5456]:ينظر: الشواذ 20، والبحر المحيط 2/486، والدر المصون 2/102.
[5457]:ينظر: القرطبي 4/60.
[5458]:ينظر: المحرر الوجيز 1/438، والبحر المحيط 2/486، والدر المصون 2/103.
[5459]:في أ: جاءتكم آية.
[5460]:ينظر: المحرر الوجيز 1/438، والبحر المحيط 2/487، والدر المصون 2/103.
[5461]:انظر: السبعة 206، والكشف 1/344، والحجة 3/43، والعنوان 79، وإعراب القراءات 1/113، وحجة القراءات 164 وشرح الطيبة 4/158، وشرح شعلة 314، وإتحاف 1/479.
[5462]:تقدم برقم 275.
[5463]:البيت لإبراهيم بن علي بن هرمة ينظر ديوانه ص 211 ومفاتيح الغيب 8/49 وفيه ولا يعطى.
[5464]:ينظر: المحرر الوجيز 1/439، والبحر المحيط 2/487، والدر المصون 2/105.
[5465]:انظر: البحر المحيط 2/488، والدر المصون 2/105.
[5466]:البيت ليزيد بن ربيعة ينظر ديوانه ص 83 وضرائر الشعر ص 146 ومعاني القرآن للفراء 1/315 والبحر 2/488 والدر المصون 2/105.
[5467]:عجز بيت وصدره: مولي الريح ورقيه وجيهته ينظر ديوانه (110) والكشاف 1/431 والدر المصون 2/105 والبحر المحيط 2/488.
[5468]:ينظر: الكشاف 1/364.
[5469]:تقدم برقم 387.
[5470]:انظر: السبعة 206، والكشف 1/345، والحجة 3/44، والعنوان 79، وحجة القراءات 164، وشرح شعلة 315، وإعراب القراءات 1/113، وشرح الطيبة 4/159، وإتحاف 1/479.
[5471]:أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (2/57).
[5472]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/426) عن ابن جريج وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/57).
[5473]:جزء بيت وتمامه: وكيد مطال وخصم منده *** هرجت فارتد ارتداد الأكمه ينظر ديوانه (27) ومجاز القرآن 1/93 والطبري 3/173 واللسان (كمه- هرج) والسيرة النبوية 1/581 والبحر المحيط 1/476 والدر المصون 2/107.
[5474]:صدر بيت وتمامه: فهو يلحى نفسه لما ندع *** ... ينظر المفضليات (200) تفسير الطبري 6/430 وشرح المفضليات 2/740 واللسان (كمه) والبحر المحيط 2/475 والدر المصون 2/107.
[5475]:أخرجه الطبري (6/429) عن الحسن والسدي وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/57) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الضحاك عن ابن عباس.
[5476]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/429) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/57) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن الأنباري.
[5477]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/428) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/57) وزاد نسبته لأبي عبيد والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "كتاب الأضداد".
[5478]:البيت لأبي كاهل اليشكري. ينظر الكتاب 1/344 وابن يعيش 2/258 ومجالس ثعلب 229 واللسان (تمر) والمقتضب 1/382 والهمع 1/181 و2/157 وضرائر الشعر ص 226 وشرح شواهد الشافية ص 443 والبحر المحيط 2/476 والدر المصون 2/2/108.
[5479]:انظر: البحر المحيط 2/490، والدر المصون 2/108.
[5480]:انظر المحرر الوجيز 1/440، والبحر المحيط 2/490، والدر المصون 2/108.
[5481]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/434- 435) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/61) عن سعيد بن جبير وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم.
[5482]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/435- 436) عن قتادة وأخرجه أيضا (6/436) عن عمار بن يسار. وذكر أثر عمار السيوطي في "الدر المنثور" (2/61) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.