قوله : { وَرَسُولاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على " فَعُول " كالصَّبور والشَّكُور .
والثاني : أنه - في الأصل - مصدر ، ومن مَجِيء " رسول " مصدراً قوله : [ الطويل ]
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ *** بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ{[5449]}
ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً *** بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ{[5450]}
ومنه قوله تعالى : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ . وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب " رَسُولاً " ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " يُعَلِّمُهُ " - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وَجِيهاً " - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً .
وقال أبو حيّان : " وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن " وَيُعَلِّمُهُ " معطوف على " وَجِيهاً " ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب " ويعلمه " {[5451]} " .
الثاني : أن يكون نَسَقاً على " كَهْلاً " الذي هو حال من الضمير المستتر في " وَيُكَلِّمُ " ، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ ، واستبعده أبو حيّان ؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه .
قال شهاب الدين{[5452]} : " ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ " .
فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة ، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، وقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .
وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولاً ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب . وهذا كما قالوا في قوله : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] وقوله : [ مجزوء الكامل ]
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا{[5453]}
فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً *** . . . {[5454]}
. . . *** وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا{[5455]}
أي : واعتقدوا الإيمانَ ، وحاملاً رُمْحاً ، وسقيتها ماءً بارداً ، وكحَّلْنَ العيون . وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ " رسول " ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى .
الخامس : أن الرسول - فيه - بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريُّ : " فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل " وَرَسُولاً " و " مُصَدِّقاً " من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حَمله عليها ؟
قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُضمر له " وأرسَلْت " - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يديَّ .
الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يدي " . اه .
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب ، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم ؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير ؛ ليناسب الضمائر .
وقال أبو حيان : " وهذا الوجه ضعيف ؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة " .
واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : " إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً ل " رَسُولاً " أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور " .
الثالث : أن يكون حالاً من مفعول " وَيُعَلِّمُهُ " وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولاً . قاله الأخفشُ ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مَرْجُوحٌ .
وعلى الثاني وهو كون " الرسول " مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ " يُعَلِّمُهُ " - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً ، أي : يعلمه الرسالة أيضاً .
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل .
وقرأ اليزيديُّ " وَرَسُولٍ " بالجر{[5456]} - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله : " بِكَلِمَةٍ " أي : يبشرك بكلمة وبرسول .
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج .
قوله : { إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن يتعلق بنفس " رسول " إذْ فعله يتعدى ب " إِلَى " .
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " رَسُولاً " فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديِّ .
هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل ، وقال بعض اليهودِ : إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين .
قيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ : وفي حديث أبي ذر الطويل : " . . . وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى ، وآخرهُم عِيسَى " . {[5457]}
قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } قرأ العامَّةُ " أنِّي " بفتح الهمزة ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض - ، إذ الأصل : بأني ، فيكون " بأنَّي " متعلِّقاً ب " رَسُولاً " وهذا مذهب الخليلِ والكسائي .
والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين : سيبويه والفرّاء .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : يذكر ، فيذكر صفة ل " رَسُولاً " حُذِفَت الصفة ، وبقي معمولُها .
الثالث : أنه منصوب على البدل من " رَسُولاً " ، أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به ، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم .
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة{[5458]} ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها على إضمار القول ، أي قائلاً : إني قد جئتكم ، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى ، وأبقي معموله .
والثاني : أن " رَسُولاً " بمعنى ناطق ، فهو مُضَمَّن معنى القول ، وما كان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول . وهذا مذهب الكوفيين .
قوله : { بِآيَةٍ } يحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ ، على أنه حال من فاعل " جِئْتُكمُ " ، أي : جئتكم [ ملتبساً بآية ] {[5459]} .
والثاني : أن يكون متعلقاً بنفس المجيء ، أي : جاءتكم الآية . . والآية : العلامة .
فإن قيل : لم قال " بِآيَةٍ " وقد أتى بآياتٍ ؟
فالجوابُ : أن المراد بالآية : الجنس .
وقيل : لأن الكل دل على شيء واحدٍ ، وهو صدقه في الرسالة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة ل " آيَةٍ " فيتعلق بمحذوف ، أي : بآية من عند ربكم ، ف " مِنْ " للابتداء مجازاً ، ويجوز أن يتعلق { مِّن رَّبِّكُمْ } بنفس المجيء - أيضاً .
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله : " بِآيَةٍ " - بقوله : " محتجاً بآيةٍ ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن ، إلا الأكوان المُطْلَقَة " .
وقرأ الجمهور " بِآيةٍ " - بالإفراد - في الموضعين ، وابن مسعود{[5460]}- : بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين .
قوله : { أَنِي أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر{[5461]} الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق .
والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : " بِآيَةٍ " ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام .
ونظيره قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ف " خَلَقَهُ " مفسرة للمثل ؛ ونظيره - أيضاً قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ المائدة : 9 ] ثم فسر الوعد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف ؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه ، مفسِّر له .
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنها بدل من { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك ؛ لأن حكمها حكمها .
الثاني : أنها بدل من " بِآيَةٍ " فيكون محلُّها الجَرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات .
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس .
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال ذلك .
الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل ، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال ، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ .
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف .
قوله : { أَخْلُقُ لَكُم } أقدِّر لكم وأصَوِّر ، وقد تقدم في قوله { يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ، ويدل عليه وُجُوهٌ :
أحدها : قوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] أي : المقدِّرين ، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية .
وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب ، قال تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 137 ] وقال : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا }
[ العنكبوت : 17 ] وقال : { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } [ ص : 7 ] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً ، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره .
ورابعها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ } [ البقرة : 29 ] إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : " خلق " على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك بَاطِلٌ ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض .
وخامسها : قول الشاعر : [ الكامل ]
وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي{[5462]}
وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ *** أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ{[5463]}
وسادسها : أنه يقال : خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس ، والخَلاَق : المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي : له هذا المقدار من الاستحقاق ، و الصخرة الخَلْقاء : الملساء ؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية .
وقال أبو عبد الله البصريُّ : لا يجوز إطلاق " الخالق " على الله - تعالى - في الحقيقة ؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل ، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ .
وأجيب بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [ فاطر : 3 ] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن ، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ .
إذا عرفت هذا فقوله : { أَنِي أَخْلُقُ لَكُم } معناه : أقَدِّر وأصَوِّر .
قوله : { لَكُمْ } متعلق ب " أخلُقُ " واللام للعلة ، أي : لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم ، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً ، بل أحداثها . و { مِّنَ الطِّينِ } متعلق به - أيضاً - و " مِنْ " لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان تساهل ؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه .
قوله : { كَهَيْئَةِ } في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير . والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً ، ثم أطلِقَت على المفعول - أي : المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً ، والمصدر : التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة .
ويقال : هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] ، والطين معروف ، يقال : طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي : جبله عليه ، والنفخ مَعْرُوفٌ .
الثاني : أن الكاف مفعول به ؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ . وقد تقدم ذلك .
الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ : " ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ " .
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى ؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم .
قال الزمخشري : أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ . وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : " أقدر " تفسير للخلق ؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري - تعالى - .
وقرأ الزهريُّ : " كَهَيْئَةِ " - بنقل حركة الهمزة إلى الياء .
وقرأ أبو جعفر : " كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ " . {[5464]}
قوله : { فَأَنْفُخُ فِيهِ } في هذا الضمير ستة أوجُهٍ :
أحدها : أنه عائد على الكاف ؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير .
الثاني : أنه عائد على " هَيْئَةِ " ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [ النساء : 8 ] ثم قال { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فأعاد الضمير في { مِنْهَا } على { القِسْمَةَ } لما كانت بمعنى المقسوم .
الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير .
الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ . وهو أني أخلق . ويكون الخلق بمنزلة المخلوق .
الخامس : أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأن المعنى : أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير . قاله الفارسي ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك .
السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديُّ ، قال : " ولا يجوز أن تعود الكناية على " الطِّينِ " لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين " .
وفي هذا الرَّد نَظَر ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم ، بل المراد بعضه . ولذلك أدخل عليه " مِنْ " التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال ، ولكنَّ الواحدي جعل " مِنْ " في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظَّاهِرُ .
قال أبو حيّان : " وقرأ بعض القُرَّاء " فأنْفَخَهَا{[5465]} " . أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة ؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة :
{ فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } [ المائدة : 110 ] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [ البسيط ]
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَامَتْكَ نَائِحَةٌ *** وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ{[5466]}
. . . *** كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما{[5467]}
يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفَحْمِ . وهي قراءة شاذة ، نقلها الفرَّاء " .
قال شهابُ الدين : " وعجبت منه ، كيف لم يَعْزُها ، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : " أعبدُ الله " فأنفخها " {[5468]} .
قوله : { فَيَكُونُ } في " يكون " وجهان :
أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون " طيراً " - على هذا - حالاً .
والثاني : أنها ناقصة ، و " طيراً " خبرها . وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ " طَائِراً " ؛ لأنه - حيئذٍ - اسم مشتق .
وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى " صار " الناقصة ، كقوله : [ الطويل ]
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا *** قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا{[5469]}
وقال أبو البقاء : " فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون " كان " هنا - التامة ؛ لأن معناها " صار " بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ،
و " طَائِراً " - على الأول - حالٌ ، وعلى الثاني - خَبَرٌ " .
قال شِهَابُ الدِّينِ : " ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى " صار " التامة التي معناها معنى " انتقل " بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى " صار " فإنما يعنون " صار " الناقصة " .
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ{[5470]} فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون " طَيْراً " في الموضعين .
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو " طَيْراً " - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد " طائر " - بالألف - فالرسم محتمل ، لا مُنَافٍ .
قال بعضهم كالشارح لما تقدم - : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم .
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي : جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر ؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله : { مِّنَ الطَّيْرِ } - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى .
قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } يجوز أن يتعلق ب " طَيْراً " - على قراءة نَافِعٍ ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ؛ لأن " طَيْراً " اسم جِنْسٍ ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ " طَيْراً " أي : طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره .
قال أبو البقاء : متعلق ب " يكون " . وهذا إنما يظهر إذا جعل " كان " تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور .
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً ، فصوَّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض . {[5471]}
قال وَهْبٌ : كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً ، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق .
قيل : خلق الخُفَّاش ، لأنه أكمل الطير خَلْقاً{[5472]} ، وأبلغ في القدرة ؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً ، وهي تحيض وتطهر وتَلِد .
وقيل : إنما طالبوه بخلق خُفَّاش ؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يُبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس سَاعةً ، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش . وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ .
قال بعض المتكلمين : دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ ، كأنه الريح ؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم ها هنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا ؟
ويقال : إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق ؛ لقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال . وقوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } معناه : بتكوين الله وتخليقه ؛ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 145 ] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ .
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح .
قوله : " وأبرئ الأكمه " وأبرئ عطف على " أخْلُقُ " فهو داخل في خبر " أنِّي " . يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن ، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف . وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب ، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ .
وقال الأصمعيُّ : برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم ، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ .
قال الراغبُ : " بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ ، وَبَرَأت من فلان " ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه . وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما ، فالفتح ليس إلا .
والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته ؛ وكذلك التَّبَري والبراء .
من وُلِدَ أعْمَى ، يقال : كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه .
فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ *** . . . {[5473]}
يقال : كمهتها ، أي : أعميتها .
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما : " الأكمهُ : من وُلِدَ مطموس العينين " ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة .
قال الزمخشري : " ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير " .
قال الراغب : " وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه : أكمه " .
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا *** . . . {[5474]}
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ : هو الأعمى . {[5475]}
وقال عكرمةُ : هو الأعمش . {[5476]}
وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليل . {[5477]}
والبرص : داء معروف ، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه ، ويُقال : برص يبرص بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوَضَح ، وفي الحديث : " وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ " . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص . ويقال للقمر : أبْرَص ؛ لشدة بياضِه .
وقال الراغب " وللنكتة التي عليه " وليس بِظَاهِرٍ ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء ، والوزغ سامٌّ أبرص ، سُمِّيَ بذلك ؛ تشبيهاً بالبرص ، والبريص : الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص .
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك .
قال وَهَبٌ : رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه ، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى ، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى .
قال الكلبيُّ : كان عيسى يُحْيي الموتَى ب " يا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، أخي عَازَرَ " وكان صديقاً له ، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا ، ومرَّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حَيًّا ، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك . وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر ، وعاش ، ووُلِدَ له . وأما ابنُ العجوزِ ، فإنه مر به محمولاً على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها .
فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسُهُ ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ ؟ فقال : يا رُوحَ اللهِ ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتاً يقول : أجِبْ رُوحَ اللهِ ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي . فسأله عن النزع ، فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم : صَدِّقُوه ؛ فإنه نبيٌّ ، فآمن به بعضُهم ، وكذَّبه بعضُهم ، وقالوا : هذا سحر .
قَيَّد قوله : { أَنِي أَخْلُقُ } بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم ، فأتَى به ؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية ، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ } ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله : { وَأُنَبِّئُكُم } من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه ، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين ؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن .
قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوز في " ما " أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - أو نكرة موصوفة . فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك " ما " في قوله : { وَمَا تَدَّخِرُونَ } محتملة لما ذكر . وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع ؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه .
قوله : { تَدَّخِرُونَ } قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ ، وأصله : تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر ، وهو التخبية ، يقال : ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً ، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي : خبَّأه .
لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ *** مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها{[5478]}
الذخر : فُعْل بمعنى المذخور ، نحو الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول : وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله : من الثَّعَالِي ، وأرانيها ، يريد : الثعالب ، وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها .
ولما كان أصله : تَذْتَخِرون ، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال ، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً ، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً ، وأدغمها في الذال المعجمة - فصار اللفظ : تَدَّخرون .
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون{[5479]} بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام ، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح .
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني{[5480]} " تَذْخَرُونَ " - بسكون الذَّال المعجمة ، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل ، يقال : ذَخَرته - أي : خبَّأته .
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة ، فيقول : اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة ، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
قال أبو البقاء : والأصل في " تَدَّخِرُونَ " تَذتَخِرون ، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالاً ؛ لأنها من مَخْرَجِها ؛ لتقرب من الذال ، ثم أبدِلت الذال دالاً ، وأدغمت . و " في بيوتكم " متعلق ب " تَدَّخِرُونَ " .
أحدهما : قال السُّديُّ : كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبيُّ إلى أهله ، ويبكي لهم ، حتى يعطوه ذلك الشيءَ ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى ، وطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا . فقال : ما في هذا البيت قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت عليه أمُّه ، حملته على حمارٍ لها ، وخرجت هاربةً به إلى مصر{[5481]} .
قال قتادةُ : إنما كان هذا في المائدةِ ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد ، فخانوا وخبّؤوا ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا ، فمسخهم اللهُ خنازيرَ . {[5482]}
وقال القرطبيُّ : إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وبما ندخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان ، أكلتَ كذا وكذا ، وادَّخرت كذا وكذا ، وأنت يا فلان ، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا .
اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة ؛ وذلك لأن المنجِّمين الذين يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة ، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى .
قوله : { إنَّ فِى ذَلِكَ } إشارة إلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر .
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته " لآياتٍ " - بالجمع ؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع ، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى ، وأن تكون من كلام الله تعالى .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبَّرتموها . وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل " آية " أي : لآية نافعة .
قال ابو حيّان : " حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط " وفيه نظر ؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .