الإحساس : الإدراك ببعض الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه - .
سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا *** أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ{[5494]}
قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف .
وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسْتَ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته ؟
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الحِسّ " في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه . وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم ؟
الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم .
الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ] .
الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا .
قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " أحَسَّ " و " مِنْ " لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم .
الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم .
أحدهما : أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه .
والثاني : أن يُحْمَلَ على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس -لا جرم- عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ :
أحدها : قال السُّدِّيُّ : إنه -تعالى- لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم .
وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض ، فَنَزَلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً ، مُهْتَمًّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زَوْجك ؟ أراه كئيباً ؟ قالت : لا تسأليني . فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ ، قالت : فقولي له : لا يهتم ؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له ، فيُكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمَّه ، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت : قد أحْسَنَ إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ ماءاً ] ثم أعْلِمْني . ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى- فتحول ما في القدور طبيخا ، وما في الجوابي خمرا ، لم يرى الناس مثله ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر ، قال : من أين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام- وكان أحب الخلق إليه- فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجابن له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان- إذا رأيته- قال عيسى : فإن أحييته تتركني وأمي نذهب حيث شئنا ؟ قال : نعم : فدعا الله تعالى –فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ؟ فاقتتلوا . وذهب عيسى وأمه فمروا بالحواريين -وهم يصطادون السمك- فقال ما تصنعون ؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناس ؟ قالوا : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، { من أنصاري إلى الله } فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهورا في الخلق ، فقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه{[5495]} .
وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا هم أول طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة ، اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله .
وثالثها : أن عيسى –عليه السلام- ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : { من أنصاري إلى الله } فما أجابه إلا الحواريون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله .
قوله : { من أنصاري إلى الله } ؟ " أنصار " جمع نصير نحو شريف وأشراف .
وقال قوم : هو جمع نصر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي من أصحاب نصرتي ؟ و " إلى " على بابها ، وتتعلق بمحذوف ؛ لأنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء .
وقال قوم إن " إلى " بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفراء : وهو وجه حسن .
وإنما يجوز أن تجعل " إلَى " في موضع " مع " إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذَّوْدِ إبل ، أي : مع الذود . بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ]
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : " مع " فقال : [ وقيل : هي بمعنى : " مع {[5496]} " ] وليس بشيء ؛ فإن " إلَى " لا تصلح أن تكون بمعنى " مع " ولا قياس يُعَضِّدُهُ .
وقيل : إن " إلَى " بمعنى اللام من أنصاري لله ؟ كقوله : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } ، كذا قدره الفارسي .
وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون " إلَى الله " متعلقاً بنفس " أنصاري " .
وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في " أنْصَارِي " أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ .
وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون " إلَى " هاهنا غاية ؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله ؟
وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ؟
وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى - : " اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ {[5497]} " أي تقرّبنا إليك .
وقيل : " إلَى " بمعنى : " في " تقديره : من أنصاري في سبيل الله ؟ قاله الحسنُ .
والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل " مفاعل " ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ . والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً ؛ تسمية له باسم أولئك ؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : " ابن عمتي وحواريّ أمتي " وفيه أيضاً - " إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر{[5498]} " ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ{[5499]} - رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً ؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين {[5500]} .
قال أبو عبيدة : سمي أصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين .
فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ *** إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ{[5501]}
يعني النساء ؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن .
[ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] {[5502]} : [ الطويل ]
فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا *** ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ{[5503]}
ومنه سميت الحور العين ؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :
وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - هواري - بالهاء مكان الحاء - .
قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون .
وقيل : " هم المجاهدون " كذا نقله ابنُ الأنباريّ .
وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا *** وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا *** إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ{[5504]}
قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة .
وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضته ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى .
وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع . قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل ؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر ؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء ؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها .
ويقال : حَارَ بعدما كار . والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] {[5505]} ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ]
و{ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه . والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء- .
وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك .
وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين .
قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك ؛ لما عليهم من أثر العبادة{[5506]} ونورها .
وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ{[5507]} ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء{[5508]} . {[5509]}
والياء في " حواريّ وحواليّ " ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة " الْحَوَارِيُّونَ " بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل .
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها : الحوارون ؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها ، فتَسْكُن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جاء القاضون ، الأصل : القاضيون ، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر . قالوا : وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها ؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفشُ في " يَسْتَهْزِيُونَ " إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بقيت الضمة ؛ تنبيهاً على الهمزة .
اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين ؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئاً ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم {[5510]} .
وقال الحسنُ : كانوا قصَّارين ، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ ، أي يبيِّضونها{[5511]} .
وقيل : كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً ، اتَّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روحَ الله جعنا ، فيضرب بيده الأرضَ ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا ؛ إذا شئنا أطُعِمْنَا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك ؟ فقال : أفضل منكم مَنْ يعمل بيده ، ويأكل من كَسْبه ، قال : فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء ، فسُمُّوا حَوَاريِّين{[5512]} .
وقيل : كانوا ملوكاً ، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه ؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت ؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون . {[5513]}
وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه ، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه ، فقال له : ها هنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوباً أخضر ، وثوباً أصفر ، وثوباً أحمر ، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريُّونَ {[5514]} .
قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السَّمكِ ، وبعضهم من القصَّارين ، وبعضهم من الصبَّاغين ، والكل سموا بالحواريين ؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته .
قوله : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أي : أنصار أنبيائه ؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ . { آمَنَّا بِاللَّهِ } هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله ؛ لأجل أن آمنا به ؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله ، والذَّبَّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : { وَاشْهَدْ } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك .
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام- .