اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

الإحساس : الإدراك ببعض الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه - .

قال الشاعر : [ الوافر ]

سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا *** أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ{[5494]}

قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف .

وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسْتَ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته ؟

قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الحِسّ " في القرآن على أربعة أضربٍ :

الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه . وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم ؟

الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم .

الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ] .

الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا .

قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب " أحَسَّ " و " مِنْ " لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم .

الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم .

فصل

في هذا الإحساس وجهان :

أحدهما : أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه .

والثاني : أن يُحْمَلَ على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس -لا جرم- عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ :

أحدها : قال السُّدِّيُّ : إنه -تعالى- لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم .

وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض ، فَنَزَلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً ، مُهْتَمًّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زَوْجك ؟ أراه كئيباً ؟ قالت : لا تسأليني . فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ ، قالت : فقولي له : لا يهتم ؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له ، فيُكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمَّه ، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت : قد أحْسَنَ إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ ماءاً ] ثم أعْلِمْني . ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى- فتحول ما في القدور طبيخا ، وما في الجوابي خمرا ، لم يرى الناس مثله ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر ، قال : من أين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام- وكان أحب الخلق إليه- فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجابن له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان- إذا رأيته- قال عيسى : فإن أحييته تتركني وأمي نذهب حيث شئنا ؟ قال : نعم : فدعا الله تعالى –فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ؟ فاقتتلوا . وذهب عيسى وأمه فمروا بالحواريين -وهم يصطادون السمك- فقال ما تصنعون ؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناس ؟ قالوا : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، { من أنصاري إلى الله } فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهورا في الخلق ، فقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه{[5495]} .

وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا هم أول طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة ، اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله .

وثالثها : أن عيسى –عليه السلام- ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : { من أنصاري إلى الله } فما أجابه إلا الحواريون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله .

قوله : { من أنصاري إلى الله } ؟ " أنصار " جمع نصير نحو شريف وأشراف .

وقال قوم : هو جمع نصر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي من أصحاب نصرتي ؟ و " إلى " على بابها ، وتتعلق بمحذوف ؛ لأنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء .

وقال قوم إن " إلى " بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفراء : وهو وجه حسن .

وإنما يجوز أن تجعل " إلَى " في موضع " مع " إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذَّوْدِ إبل ، أي : مع الذود . بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ]

وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : " مع " فقال : [ وقيل : هي بمعنى : " مع {[5496]} " ] وليس بشيء ؛ فإن " إلَى " لا تصلح أن تكون بمعنى " مع " ولا قياس يُعَضِّدُهُ .

وقيل : إن " إلَى " بمعنى اللام من أنصاري لله ؟ كقوله : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } ، كذا قدره الفارسي .

وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون " إلَى الله " متعلقاً بنفس " أنصاري " .

وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في " أنْصَارِي " أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ .

وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون " إلَى " هاهنا غاية ؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله ؟

وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ؟

وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى - : " اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ {[5497]} " أي تقرّبنا إليك .

وقيل : " إلَى " بمعنى : " في " تقديره : من أنصاري في سبيل الله ؟ قاله الحسنُ .

فصل

والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل " مفاعل " ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ . والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً ؛ تسمية له باسم أولئك ؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : " ابن عمتي وحواريّ أمتي " وفيه أيضاً - " إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر{[5498]} " ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ{[5499]} - رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً ؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين {[5500]} .

قال أبو عبيدة : سمي أصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين .

وقال الفرزدق : [ البسيط ]

فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ *** إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ{[5501]}

يعني النساء ؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن .

[ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] {[5502]} : [ الطويل ]

فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا *** ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ{[5503]}

ومنه سميت الحور العين ؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :

وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - هواري - بالهاء مكان الحاء - .

قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون .

وقيل : " هم المجاهدون " كذا نقله ابنُ الأنباريّ .

وأنشد : [ الطويل ]

وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا *** وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ

جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا *** إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ{[5504]}

قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة .

وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضته ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى .

وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع . قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل ؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر ؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء ؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها .

ويقال : حَارَ بعدما كار . والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] {[5505]} ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ]

و{ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه . والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء- .

وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك .

وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين .

قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك ؛ لما عليهم من أثر العبادة{[5506]} ونورها .

وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ{[5507]} ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء{[5508]} . {[5509]}

والياء في " حواريّ وحواليّ " ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة " الْحَوَارِيُّونَ " بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل .

وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها : الحوارون ؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها ، فتَسْكُن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جاء القاضون ، الأصل : القاضيون ، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر . قالوا : وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها ؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفشُ في " يَسْتَهْزِيُونَ " إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بقيت الضمة ؛ تنبيهاً على الهمزة .

فصل في المراد ب " الحواريين "

اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين ؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئاً ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم {[5510]} .

وقال الحسنُ : كانوا قصَّارين ، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ ، أي يبيِّضونها{[5511]} .

وقيل : كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً ، اتَّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روحَ الله جعنا ، فيضرب بيده الأرضَ ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا ؛ إذا شئنا أطُعِمْنَا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك ؟ فقال : أفضل منكم مَنْ يعمل بيده ، ويأكل من كَسْبه ، قال : فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء ، فسُمُّوا حَوَاريِّين{[5512]} .

وقيل : كانوا ملوكاً ، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه ؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت ؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون . {[5513]}

وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه ، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه ، فقال له : ها هنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوباً أخضر ، وثوباً أصفر ، وثوباً أحمر ، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريُّونَ {[5514]} .

قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السَّمكِ ، وبعضهم من القصَّارين ، وبعضهم من الصبَّاغين ، والكل سموا بالحواريين ؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته .

قوله : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أي : أنصار أنبيائه ؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ . { آمَنَّا بِاللَّهِ } هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله ؛ لأجل أن آمنا به ؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله ، والذَّبَّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : { وَاشْهَدْ } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك .

ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام- .


[5494]:البيت لأبي زبيد الطائي. ينظر ديوانه ص 96 وسمط اللآلئ ص 438 واللسان (حسس) والمحتسب 1/123 والمنصف 3/84 والإنصاف 1/273 والخصائص 2/438 وشرح المفصل 10/154 ومجالس ثعلب 2/486 والمقتضب 1/245 والدر المصون 1/112.
[5495]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/445- 446) مطولا عن السدي.
[5496]:سقط في أ.
[5497]:أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/467) وأبو نعيم في "الحلية" (8/178). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[5498]:أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب فضل الطليعة رقم (2846)، كتاب الجهاد والسير باب سير الرجل وحده بالليل رقم (2997) كتاب المناقب باب مناقب الزبير رقم (3719) وكتاب المغازي باب غزوة الخندق رقم (4113) والترمذي (3744) وأحمد (3/314) وأبو نعيم في "الحلية" (4/186) والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/431) عن جابر بن عبد الله. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/63) وزاد لابن المنذر.
[5499]:ذكره البغوي في "تفسيره" 1/306.
[5500]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/63) وعزاه لعبد بن حميد عن الضحاك. والقصار والمقصر: المحور للثياب: لأنه يدقها بالقصرة التي هي من الخشب وحرفته القصارة (اللسان: قصر).
[5501]:ينظر البيت في ديوانه (1/524) واللسان (حور) والدر المصون 2/113.
[5502]:في ب: قال الشاعر.
[5503]:ينظر البيت في المؤتلف والمختلف (79) ومعاني الزجاج 1/423 ومجاز القرآن 1/95 والجمهرة 1/330، 2/146 وجامع البيان 6/451 والكشاف 1/432 والبحر 2/493 والدر المصون 2/113.
[5504]:ينظر البيتان في زاد المسير 1/410 والدر المصون 2/113.
[5505]:في أ: اللفظ.
[5506]:في أ: الدنيا.
[5507]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/450) عن قتادة.
[5508]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/63) عن قتادة وعزاه لابن أبي حاتم وعبد الرزاق.
[5509]:وفي رواية عن ابن عامر. ينظر: شواذ القراءات 21، والمحرر الوجيز 1/443، والبحر المحيط 2/295، والد المصون 2/114.
[5510]:ذكره البغوي في تفسيره 1/305، 306.
[5511]:ذكره البغوي في تفسيره 1/306.
[5512]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (8/56).
[5513]:ينظر المصدر السابق.
[5514]:ينظر المصدر السابق.