اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓـَٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓـٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (112)

قيل : المراد بالخَطِيئَةِ : سَرِقَةُ الدِّرْع ، وبالإثْمِ : يَمينه الكَاذِبَة .

وقيل : الخَطِيئَةُ : الصَّغيرة ، والإثْم : الكَبِيرة .

وقيل : الخَطِيئَة : ما لا يَنْبَغِي فِعْلُه سواءً كان بالعَمْد أو بالخَطَأ ، والإثْم : ما يَحْصُل بسبب العَمْد ؛ لقوله في الَّتِي قَبْلَها : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } [ النساء : 111 ] فبيَّن أن الإثْم ما يَسْتَحِقُّ به العُقُوبَة .

وقيل : هُما بمَعْنَى وَاحِد ، كرر لاخْتِلاَف اللَّفْظ تَأكِيداً .

وقال الطَّبَرِيّ{[9684]} : الخَطِيئَة تكون عن عَمْد ، وعَنْ غَيْر عمد ، والإثْم لا يكون إلا عن عَمْد ، وقيل : الخَطِيئَة مَا لَمْ يُتَعَمَّد خاصَّة ؛ كالقَتْل الخَطَأ .

قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } : في هذه الهَاءِ أقوالٌ :

أحدُها : أنها تعود على " إثماً " لأنه الأقْرب ، والمتعاطفان ب " أو " : يجُوز أن يعودَ الضَّمير على المَعْطُوف كهذه الآية ، وعلى المعطوف عليه ؛ كقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] .

والثاني : أنها تعودُ على الكَسْبِ المدْلُول عليه بالفعل ، نحو : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] أي العدل .

الثالث : أنها تعودُ على أحد المذكُورَيْن الدَّالِّ عليه العَطْفُ ب " أو " فإنه في قُوَّة " ثم يَرْمِ بأحَدِ المذكُورَيْن " .

الرابع : أنَّ في الكَلاَم حَذْفاً ، والأصْل : { ومن يكسب خطيئة ثم يرم بها } ؛ وهذا كما قيل في قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] أي : يَكْنزِون الذَّهب ، ولا ينفقونه .

الخامس : أن يعُود على{[9685]} معنى الخَطِيئة ، فكأنَّه قال : ومن يَكْسِب ذَنْباً ثم يَرْم بِهِ ، وقيل : جَعَل الخَطِيئَة والإثْم كالشَّيْء الوَاحِد ، و " أو " هنا لتَفْصِيل المُبْهَمِ ، وتقدَّم له نَظَائرُ .

وقرأ مُعاذُ بن جَبَل{[9686]} : " يَكسِّبْ " بِكسْر الكاف وتَشْدِيد السِّين ، وأصْلُها : يَكْتَسِبْ ، فأدغمت تَاءُ الافْتعال في السِّين ، وكُسِرت الكافُ إتباعاً ، وهذا شَبيهٌ ب " يَخِطِّف " [ البقرة :20 ] ، وقد تقدَّم تَوْجِيههُ في البقرة ، وقرأ الزهري{[9687]} : " خَطِيَّة " بالتَّشديدِ ، وهو قياسُ تَخْفِيفها .

وقوله : { يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } أي : يقْذِفُ بما جَنَى " بَريئاً " منه كما نُسِبَتِ السَّرِقَة إلى اليَهُودِي . [ قوله ]{[9688]} : { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً } البهتان : هو البهْت ، وهو الكَذِب الَّذي يتحيَّر{[9689]} في عِظمهِ ؛ لأنَّهُ إذا قيل للإنْسَان ، بُهت وتَحَيَّر .

رَوَى مُسْلِمٌ ، عن أبِي هُرَيْرة ، " قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :[ أ ]{[9690]} تَدْرُون ما الغيبة ؟ قالُوا : الله ورسُولُه أعْلَم ، قال : " ذِكْرُكَ أخَاكَ بما يَكْرَهُ " . قيل : أفَرَأيْت إن كَانَ في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تَقُول ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يَكُن فِيهِ ، فقد بَهَتَّهُ " {[9691]} ؛ فرمْيُ البَرِيءِ{[9692]} بَهْتٌ له ، يقال : بَهَتَهُ بَهْتاً وَبُهْتَاناً ، إذا قَالَ عَنْه ما لم يَقُل ، وهو بَهَّاتٌ ، والمَفْعُول له : مَبْهُوتٌ ، ويُقَال : بَهِتَ الرَّجُل بالكَسْر ، إذا دُهشَ وتَحَيَّر ، وبَهُتَ بالضَّمِّ مثله ، وأفْصَحُ منها : بُهِتَ ؛ كقوله - تعالى - : { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ }

[ البقرة : 258 ] لأنَّه يُقَال : رَجُل مَبْهُوتٌ ، ولا يُقَال : باهِت{[9693]} ، ولا بَهِيتٌ ؛ قال الكسائي{[9694]} ، و " إثْماً مُبِيناً " أي : ذَنباً بَيِّناً .


[9684]:ينظر: تفسير الطبري 4/274.
[9685]:في ب: إلى.
[9686]:ينظر: البحر المحيط 3/362، والدر المصون 2/424.
[9687]:ينظر: القراءة السابقة.
[9688]:سقط في أ.
[9689]:في ب: يتجر.
[9690]:سقط في أ.
[9691]:أخرجه مسلم (4/2001) كتاب البر والصلة باب تحريم الغيبة حديث (70/2589) من حديث أبي هريرة.
[9692]:في أ: الذي.
[9693]:في ب: بهيت.
[9694]:ينظر: تفسير القرطبي 5/244.