اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

قوله تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ]{[9709]}

قال الوَاحِدِي{[9710]} : النَّجْوى في اللُّغَة سر بين اثْنَيْن ، يُقَال : ناجَيْت الرَّجل مُنَاجَاة ونِجَاء ، ويقال : نجوت الرَّجُل أنْجُو بِمَعْنَى : نَاجَيْتُه ، والنَّجْوى قد تكون مَصْدراً بمنزلة المُنَاجَاةِ ، قال - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] وقد يُطْلَق على الأشْخَاص مَجَازاً ، قال - تعالى - : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } [ الإسراء : 47 ] ومَعْنَاها : المُسَارّة ، ولا تكون إلا مِن اثْنَيْن فأكثَر .

وقال الزَّجَّاج{[9711]} : [ النَّجْوى ]{[9712]} ما تفرَّد به الاثْنَان فأكْثر ، سِرًّا كان أو ظَاهِراً .

وقيل : النَّجْوى جمع نَجِيّ ؛ نقله الكَرْمَاني ، والنَّجْوى مشتقَّةٌ من نَجَوْتُ الشيء ، أنْجُوه ، إذا خَلَّصْتَه وأفْرَدْتَه ، والنَّجْوة المُرْتَفِعُ من الأرْضِ ؛ لانْفِرَاده بارتفاعه عمَّا حَوْله .

فصل فيمن المقصود بالآية ؟

والمراد بالآية : قَوْم طعمة .

وقال مُجَاهد : الآية عَامَّة في حَقِّ جميع النَّاسِ{[9713]} ، والنَّجْوى : هي الإسْرَار{[9714]} في التَّدْبِير .

وقيل : النَّجْوى : ما يَنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِه قَوْمٌ ، سِرّاً كان أوْ عَلاَنِيَة ، ومَعْنَى الآيَة : لا خَيْر في كَثِيرٍ مما يُدَبِّرُونه بَيْنَهُم ، إلاَّ من أمَرَ بِصَدَقَة ، أوْ معروفٍ ، أو إصلاحٍ بين النَّاسِ فالاستِثْنَاء يكون مُتَّصِلاً ، وقيل : هو استِثْنَاء مُنْقَطِع بمعنى : لكن من أمر بِصَدقَةٍ ، وهذان القَوْلان مبنيّان على أن النَّجْوى يجوز أن يراد بها : المَصْدرُ كالدَّعْوى ؛ فتكون بِمعنَى : التناجي ، وأنْ يُرادَ بها : القَوْمُ المتناجُون إطلاقاً للمَصْدرِ على الوَاقِع منه مجازاً ، نحو : " رجلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ " . فعلى الأول يكون مُنْقَطِعاً ؛ لأنَّ مَنْ أمَر لَيْس تَنَاجِياً ؛ فكأنه قيل : لكنْ مَنْ أمَر بصدَقةٍ ، ففي نَجْوَاه الخيرُ ، والكوفِيُّون يقدِّرون المُنْقَطع ب " بل " ، وجعل بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً ، وإنْ أُريد بالنَّجْوى : المصدرُ ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ ؛ كأنه قيل : إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلِّ " مِنْ " وجهان :

أحدهما : الخَفْضُ بدل من " نَجْوَاهُم " ؛ كما تقول : " ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ " .

والثاني : النَّصْب على الاستِثْناء [ كما تقول : " مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ ، على الاستثناء ؛ ]{[9715]} لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى : المُتَناجين ، كان مُتَّصِلاً ، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز ، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل ، بشرط توجُّه العَامِل عليه ، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه ، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً ، وهو المختار ، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء ، فقوله " إلا مَنْ أمَر " : إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع ، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز ، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً ، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من " كثير " ، أو من " نجواهم " ، أو صِفَةٌ لأحدهما ؛ كما تقُول : " لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد " إنْ [ شئت ] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم ، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا " لِكَثير " قال : إلا نَجْوَى مَنْ أمَر ، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من " كَثِيرٍ " ؛ كما تقُولُ : " لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ " وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية ، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين ، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم ، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه : النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز ، أو على أصْلِ الاستثناءِ ، والجرُّ على البَدَل من " كَثِير " ، أو من " نَجْوَاهُم " ، أو على الصِّفَةِ لأحدهما .

و " مِنْ نَجْوَاهُم " متعلقٌ بمحذُوفٍ ؛ لأنه صِفَةٌ ل " كثير " في مَحَلِّ جَر .

فصل

إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة ؛ لأن عَمَل الخَيْر ، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ ، أو بدفع المَضَرَّة ، وإيصال الخَيْر :

إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة ، وهو إعْطاء المَالِ ، وإليه الإشارة بقوله : { إلا مَنْ أمَر بِصَدَقَةٍ } .

وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية ، وإليه الإشارة بقوله : " أو مَعْرُوف " {[9716]} .

وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله : { أَوْ إصلاحٍ بَيْن النَّاسِ } .

قوله " بَيْن " يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح ، تقول : أصْلَحْت بَيْن القَوْم ، قال - تعالى - : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات :10 ] ، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح .

[ و ]{[9717]} قوله : { ومن يَفْعَل ذَلك } أي : هذه الأشْيَاء ، { ابْتِغَاء مَرْضَات الله } أي : طَلَب رِضَاه ، و " ابْتِغَاء " مَفْعُول من أجْله ، وألِفُ " مَرْضَاتِ " عن وَاوٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُه .

فإن قِيلَ : كَيْف قال : { إلاَّ مَنْ أَمَر } ثم قال : { وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ } .

فالجواب : أنَّه ذكر الأمْرَ بالخير ، ليَدُل به على فَاعِلِه ؛ لأنَّ الآمِرَ بالخَيْر لما دَخَل في زُمْرَة{[9718]} الخَيِّرين ، فبأن يَدْخل فَاعِل الخَيْر فيهم أوْلى ، ويجوز أن يُرَاد : ومن يأمُر بذلك ، فعبر عن الأمْر بالفعل ؛ لأنَّ الأمْر أيضاً فِعْل من الأفعال .

ثم قال : " فسوف يُؤتيه " {[9719]} بالياء نظراً إلى الاسْمِ الظَّاهر في قوله : " مَرْضَات الله " ، وقرئ بالنُّون ؛ نظراً لِقَوله بعدُ : " نُولِّه ، ونُصْلِه " وهو أوقعُ للتَّعْظِيم .


[9709]:سقط في ب.
[9710]:ينظر: تفسير الرازي 11/33.
[9711]:ينظر: معاني القرآن 2/114.
[9712]:سقط في ب.
[9713]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/386) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن عكرمة.
[9714]:في ب: السرار.
[9715]:سقط في أ.
[9716]:في أ: بالأمر بالمعروف.
[9717]:سقط في ب.
[9718]:في أ: ميرة.
[9719]:قرأها بالياء أبو عمرو وحمزة. ينظر: السبعة 237، والحجة 3/181، والعنوان 85، وإعراب القراءات 1/137، وحجة القراءات 211، وشرح شعلة 343، وشرح الطيبة 4/218، وإتحاف 1/520.