اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا} (108)

في " يَسْتَخفُون " : وجهان :

أظهرُهُمَا : أنها مَستأنفة لمجرد الإخْبَار بأنهم يَطْلُبون التستُّر من الله - تعالى - بجهلهم .

والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ صفة ل " مَنْ " في قوله : { لا يحبُّ مَنْ كان خَواناً } وجُمِع الضَّمِير اعتباراً بمعناها إن جعلت " مَنْ " نكرةً موصوفة ، أو في مَحَلِّ نصب على الحَالِ مِنْ " مَنْ " إن جَعَلْتَها مَوصُولة ، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار مَعْنَاها أيضاً .

والاستخفاء{[9656]} الاستتار ، يقال استَخْفَيْت من فُلان : أي : توارَيْتُ منه واسْتَتْرتُ ؛ قال الله - تعالى - : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ } [ الرعد : 10 ] أي : مُسْتَتر ، ومعنى الآيَة : يَسْتَتِرُون من النَّاسِ ، ولا يَسْتَتِرُونَ من اللَّه .

قال ابن عبَّاسٍ{[9657]} : يَسْتَحْيُون من النَّاس ، ولا يَسْتَحيون من اللَّه . قال الواحِدِي{[9658]} : هذا مَعْنًى وليس بِتَفْسير ؛ وذلك أنَّ الاستحْيَاء من النَّاس هو نفس الاسْتِخْفَاء ، فَلَيْس الأمْر كذلك . قوله : " وَهُو مَعَهُم " جملة حالية إمَّا من اللَّه - تعالى - ، أو من المُسْتَخْفِينَ ، وقوله : " معهم " أي : بالعِلْم ، والقُدْرَة ، والرُؤيَة ، وكَفَى هذا زاجراً للإنْسَان ، و " إذْ " منصوبٌ [ بالعامل - في ]{[9659]} الظَّرْفِ - الوَاقِعِ خبراً ، وهو " مَعَهُم " ومعنى : يُبَيِّتُون : يَتَقَوَّلون ، ويُؤلِّفُون ، ويضمرون في أذْهَانِهِم ، والتبييتُ : تدبير الفِعْل لَيْلاً ، والذي لا يَرْضَاه اللَّه من القَوْل ؛ هو أنَّ طعمة قال : أرمي اليَهُودي بأنَّه هو الَّذِي سرق الدِّرْع ، وأحْلِفُ أنِّي لمْ أسْرِقْها ، ويَقْبَل الرَّسُول يميني ؛ [ لأني ]{[9660]} على دِينهِ ، ولا يَقْبَل يَمين اليَهُودِي .

فإن قيل : لِمَ سَمَّى التَّبْييت{[9661]} قولاً ، وهو مَعْنى في النَّفْسِ ؟ .

فالجواب : أن الكلام الحَقِيقي هو المَعْنَى القَائِم بالنَّفْسِ ، وعلى هذا فلا إشْكَال ، ومن أنْكَر كلام النَّفْس ، قال : إن طعمة وأصْحَابه أجْمَعُوا في اللَّيْل ، ورَتَّبُوا كيْفِيَّة{[9662]} الحِيلة والمَكْر ؛ فسمَّى الله - تعالى - كلامَهُم ذلك بالقَوْل المُبَيَّت الذي لا يَرْضَاه ، ثم قال : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } والمُراد به : الوَعِيد ؛ لأنهم وإن كانُوا يُخْفُون كَيْفيَّة المكر والخداع عن النَّاس ، فإنها ظَاهِرَة في عِلْم اللَّه ؛ لأنَّه - تعالى - مُحِيطٌ بجميع المَعْلُومات لا يَخْفَى عليه منها شيء .


[9656]:في ب: والاختفاء.
[9657]:ينظر: تفسير الرازي 11/29.
[9658]:ينظر: السابق.
[9659]:سقط في ب.
[9660]:سقط في ب.
[9661]:في أ: التدبير.
[9662]:في ب: كيف.