اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا} (113)

قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }{[9695]} .

قال القُرْطُبِي{[9696]} : ما بَعْد " لَوْلاَ " مرفوعٌ بالابْتِدَاء عند سِيبَويْه ، والخَبَر مَحْذُوف لا يَظْهَر ، والمَعْنَى : ولولا فَضْلُ اللَّه عَليكَ ورَحْمَتُه بأن نبَّهك على الحَقِّ ، وقيل : بالنُّبُوءَة والعِصْمَة ، { لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } عن الحق .

قال شهاب الدين : في جواب " لولا " وجهان :

أظهَرُهُمَا : أنه مَذْكُورٌ ، وهو قوله : " لَهَمَّتْ " .

والثاني : أنه مَحْذُوفٌ ، أي : لأضلُّوك ، ثم اسْتأنَفَ جُمْلة فقال : " لَهَمَّتْ " أي : لقد هَمَّتْ .

قال أبو البقاء{[9697]} في هذا الوَجْه ، ومثلُ حذفِ الجَوابِ هنا حَذْفُه في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ النور : 10 ] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ مَحْذُوفاً ، استشكل كَوْنَ قوله : " لهمتْ " جواباً ؛ لأنَّ اللَّفْظ يقتضي انْتِفَاء هَمِّهم بذلك ، والغرضُ : أنَّ الواقع كوْنُهم همُّوا على ما يُرْوَى في القصَّة ؛ فلذلك قدَّره مَحْذُوفاً ، والذي جَعَلَه مثبتاً ، أجَابَ عن ذلك بأحَدِ وَجْهَيْن :

إمَّا بتَخْصيص الهَمِّ ، أي : لَهَمَّتْ هَمّاً يؤثِّر عندك .

وإمَّا بتخصيص الإضْلال ، أي : يُضِلُّوك عن دينك وشريعتك ، وكلا هذيْن الهمَّيْن لم يقع .

و " أَن يضلُّوك " على حَذْف الباء ، أي : بأن يُضِلُّوك ، ففي مَحَلِّها الخِلافُ المَشْهُور ، و " مِنْ " في " مِنْ شَيء " زائدةٌ ، و " شيء " يراد به المَصْدرُ ، أي : وما يَضُرُّونك ضَرَراً قليلاً ، ولا كثيراً .

فصل

هذا قول للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لَوْلا{[9698]} أن خَصَّكَ الله بالنُّبُوَّة والرَّحمة ، " لهمت طائفة " : لقد هَمَّتْ طائفة ، أي : أضْمَرَت طَائِفَة منهم ، يعني : قَوْم طعمة ، " أَن يضلوك " أي : يُخَطِّئُوك في الحُكْم ، ويُلْبِسُوا عليك الأمْر ؛ حَتَّى تدافع عن طعمة ، { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } يعني : يرجع وَبالُهُ عليهم ، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } فيه وَجْهَان :

الأوَّل : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - وما يضُرُّونك في المُسْتَقْبل ، فوعده - تعالى - بإدَامَة العِصْمَة لما يُرِيدُون من إيقَاعِه في البَاطِل .

الثَّاني : المَعْنَى : أنَّهم وإنْ سَعوْا في إلْقَائك{[9699]} فأنْتَ ما وقَعْتَ في البَاطِل : لأنَّك بنيت الأمر على ظَاهِر الحَال ، وأنت ما أمرت إلا بِبِنَاءِ{[9700]} الأحْكَام على الظَّاهِر .

ثم قال : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } وهذا مؤكد لذلك الوَعْد إن فَسَّرْنا قوله : { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } بالوَعْد والعِصْمَة في المُسْتَقْبل ، يعني : لما أنْزَل عليك الكتاب والحكمة ، وأمر بِتَبْلِيغ الشَّريعة إلى الخَلْقِ ، فكيف يَلِيقُ بحكمته ألاَّ يَعْصِمَك عن الوُقُوع في الشُّبُهَات ، وإن فَسَّرْنا الآية بأنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان مَعْذُوراً في بناء الحُكْم على الظَّاهر ، كان المَعْنَى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأوْجَبَ فيها بِنَاء أحكام{[9701]} [ الشَّرْع ]{[9702]} على الظَّاهر ، فكيف يَضُرُّك بناء الأمْر على الظَّاهِر .

قال القُرْطُبِي{[9703]} : قوله [ تعالى ]{[9704]} : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } ابْتِداء كلام .

وقيل : " الواو " للحال ؛ كقوله " جئتك والشمس طالعة " ، والكلام مُتَّصِلٌ ، أي : [ ما يَضُرُّونك من شَيْء مع إنْزَال اللَّه عليك ]{[9705]} القُرْآن ، " والحِكْمَة " : القَضَاء بالوَحْي .

ثم قال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } .

قال القَفَّال : هذه الآيَة تَحْتَمِلُ وَجْهَيْن :

أحدهما : أن يكُون المُراد [ ما يتعَلَّق ]{[9706]} بالدِّين ؛ كما قال : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] فيكون تَقْدِير الآيَة : أنْزَل عليك الكتاب والحِكْمة ، وأطْلَعَك على أسْرَارِهَا ، مع أنَّك قبل ذَلِك لم تكن عَالِمَاً بشيء منهما ، فكَذَلِكَ يفْعَل بك في مُسْتَأنف أيَّامك ، لا يَقْدِر أحدٌ من المُنَافِقِين على إضلالك .

الثاني : أن المُراد : وعَلَّمك ما لم تكُن تَعْلَم من أخْبَار الأولِين ؛ فكذلك يُعَلِّمك من حِيَل المُنَافِقِين وَوُجوه كَيْدِهِم ، ما تَقْدِر [ به ]{[9707]} على الاحتراز عن كَيْدهم ومَكْرِهِم .

{ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } . وهذا يَدُلُّ على أنَّ العِلْم أشْرَف الفَضَائِلِ والمَنَاقِب ؛ لأنَّ الله - تعالى - ما أعْطَى الخَلْق من العِلْم إلا القَلِيل ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ثم إنَّه سمَّى ذلك القَلِيل عَظِيماً ، وسمَّى جَمِيع الدُّنْيَا قَلِيلاً ، لقوله [ - تعالى - ]{[9708]} : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] وذلك يَدُلُّ على شَرَف العِلْم .


[9695]:سقط في ب.
[9696]:ينظر: تفسير القرطبي 5/245.
[9697]:ينظر: الإملاء 1/194.
[9698]:في أ: قولا.
[9699]:في ب: أتعابك.
[9700]:في أ: لأتيان.
[9701]:في ب: الأحكام.
[9702]:سقط في ب.
[9703]:ينظر: تفسير القرطبي 5/245.
[9704]:سقط في أ.
[9705]:سقط في ب.
[9706]:سقط في أ.
[9707]:سقط في أ.
[9708]:سقط في أ.