اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

[ قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }{[9956]}

وقوله : " وإن امْرَأَةٌ " : " امرأةٌ " فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار ، وهذه من باب الاشْتِغَال ، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء ، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين ، خلافاً للأخفش ، والكُوفيِّين ، والتقديرُ : " وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ " ، ونحوهُ :

{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [ التوبة : 6 ] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم : بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ : [ الخفيف ]

وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي{[9957]}

قال بعضهم : خافت ، أي : عَلِمَت ، وقيل : ظَنَّت . قال ابن الخطِيب{[9958]} : ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر ؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [ تدلُّ عليه ]{[9959]} من جِهَة الزَّوْجِ ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ .

قوله " مِن بَعْلِها " يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب " خَافَت " وهو الظَّاهِر ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من : " نُشوزاً " إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها ، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً ، فنُصِب حالاً ، و " فلا " جَوَابُ الشَّرْطِ ، والبَعْل : يطلق على الزَّوْج ، وعلى السَّيِّد .

قوله " أَن يُصْلِحَا " قرأ الكوفيون{[9960]} : " يُصْلِحا " من أصْلَح ، وباقي السَّبْعة " يَصَّالحا " بتشديد الصَّاد بعدها ألف ، وقرأ{[9961]} عثمان البتي والجَحْدَري : " يَصَّلِحا " بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ : " يُصالِحا " {[9962]} بضمِّ الياءِ ، وتخفيفِ الصَّادِ ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة ، وابن مَسْعُود ، والأعْمش{[9963]} : " أن اصَّالحا " .

فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ .

وقراءةُ باقي السَّبْعَة ، أصلُهَا : " يتصالحا " ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً ؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت ، كقوله : " ادّاركوا " . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان ، فأصلُها : " يَصْطَلِحا " فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً ، وإدغامها فيما بَعْدَها .

وقال أبو البقاء{[9964]} : " وأصله : " يَصْتَلِحا " فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى " وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة ؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة ، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً ؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه .

وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ ؛ لأنها من المُصَالَحة .

وأما قِرَاءة : " يَصْطَلِحَا " فأوضحُ ، ولم يُخْتَلَفْ في " صُلْحاً " مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ .

وفي نصبه أوجهٌ :

فإنه على قِرَاءة الكوفيين : يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً ، وناصبُه : إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات ، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً . وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان :

أحدُهما : أنه " بَيْنَهُمَا " اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به .

والثاني : أنه مَحْذُوف و " بينهما " ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ " صلحاً " فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ " صُلْحاً " على المَفْعُول به ، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه ؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى : المُعْطى ، والثبات بِمَعْنَى : المُثْبَت .

وأمَّا على بقيةِ القِراءَاتِ : فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين : أعني : كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد ، فيكون وَاقِعاً موقع " تَصَالَحَا ، أو اصْطِلاَحاً ، أو مصالحةً " حَسْبَ القِرَاءَات المتقدِّمة ، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ ، أي : بصُلْحِ ، أي : بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة ، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه .

والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الكوفِيِّين ، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءَاتِ .

قوله : " والصُّلْحُ خيرٌ " : مبتدأ وخبر ، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري{[9965]} فيها وفي التي بعدها : " إنهما اعْتِرَاضٌ " ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يُريد أنَّ قوله : " وإنْ يتفرَّقا " مَعْطُوفٌ على قوله : " فَلاَ جُنَاْحَ " فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً ؛ هكذا قال أبو حيَّان .

قال شهاب الدين : وفيه نظر ، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع : إنها اعْتِرَاضٌ ، ولا يَخُص : " والصُّلْح خَيْر " ، وأُحْضِرَتِ الأنفسُ [ الشُّح ] بذلك ، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك : الاعتراض بَيْن قوله : " وإن امْرَأةٌ " وقوله : " وَإِن تُحْسِنُواْ " فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى ، فإنه قال : " وإن تحسنُوا بالإقَامَة على نِسَائِكُم ، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن ، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض " انتهى .

فصل

والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس ، وأن تكونَ للعهْد ؛ لتقدُّمِ ذكره ، نحو :

{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 16 ] .

فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ ، أم لاَ ؟ فإن قُلْنَا : يفيد العُمَوم ؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود{[9966]} سِابِقٌ ، فهل يُحْمَل على العُمُوم ، أم على المَعْهُود السِّابق ؟ [ و ]{[9967]} الأوْلى : حَمْله على المَعْهُود السَّابِق ، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة ، وصار مُجْمَلاً ، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ ، اندفع هذا المَحْذُور ، فوجب حَمْلُه عليه .

وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة : فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق ، قال : الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة ، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على{[9968]} الإنْكَار جَائز ، وهُمُ الحَنفيَّة و " خير " : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها ، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ ، فقيل : تقديرُه : من النُّشُوز ، والإعْرَاض ، وقيل : خيرٌ من الفُرْقَة ، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى ؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة ، ويُحْتمل أن تَكون صِفَةً مجرَّدَةً ، أي : والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور ؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور .

فصل في سبب نزول الآية

هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال : خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة ، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع ، ويقال : رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة ، فلما علاَهَا الكِبَر ، تزوَّجَ عليها امْرَأة شابَّةً ، فآثرها عليها ، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة{[9969]} ، فأتت رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إلَيْه ، فنزلت الآية{[9970]} .

وقيل : نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة ، حين أرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطَلِّقها ، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة{[9971]} ، فأجازَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يطلقها .

وروي عن عَائِشَة ، أنها قَالَت : نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل ، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [ بها ]{[9972]} غيرها ، فتقول : أمْسِكْنِي ، وتزوج بِغَيْري{[9973]} ، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [ والقَسْم{[9974]} ]{[9975]} .

وقال سَعِيد بن جُبَير : نزلت في أبِي السَّائِب ، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت ، وله مِنْهَا أوْلاد ، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، ودعنِي على وَلَدِي ، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي ، فقال : إن كَانَ يصلحُ ذَلِك ؛ فهو أحَبُّ إليّ ، فأتَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ ذَلِك . فأنزل الله { وإن امْرأةٌ خافت }{[9976]} أي : علمت قيل : وظَنَّتْ ، وقيل : مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ ظُهُور ]{[9977]} أمارات النُّشُوز ، وهو البُغْضُ والشِّقَاق ، من النَّشْز : وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض .

قال الكَلْبِيُّ{[9978]} : نشوز الرَّجُل : ترك مُجَامَعَتِها ، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها ، وقلة مُجَالَسَتِها ، { فلا جناح عليهما } أي : على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا ، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له ، وحقُّ المرأة على الزَّوْج : إما المَهْر ، أو النَّفَقَة ، أو القَسْم . فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها{[9979]} من الزَّوْجِ ، شاء أم أبَى ، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر ، وإذا كَان كَذَلك ، فإذا بذلت المَرْأة ما تسْتحِقُّهُ ، أو بعضه للزَّوْج ، وتصالحا على ذَلِكَ جَاز ، فإن رَضِيَت ، كَانَتْ هي المُحْسِنَة ، ولا تُجْبَر على ذلك ، وإن لم تَرْض‌َ ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [ أو يُسَرِّحها بإحْسَان ، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ ، فهو المُحْسِن .

وروى سُليْمَان بن يَسَار ، عن ابن عبَّاسٍ : فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ ، ]{[9980]} فذلك جائز ما رَضِيت ، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح ، فذلك لَهَا ، ولها حَقُّهَاِ .

ثم قال : " والصُّلْح خَيْر " [ يعني : إقَامَتَهَا ]{[9981]} بعد تَخْييره إيَّاهَا ، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها ، خَيْر من الفُرقَة .

كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً ، أراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُفَارِقَهَا ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة ، فأمْسَكَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يَقْسمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة .

فصل

قال - تعالى - : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا } ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة ، والغايةُ فيه : ارْتِفَاع الإثْم ، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا{[9982]} إثْم ، ففيه خَيْر عَظِيمٌ .

قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } " حَضَر " يتعدى إلى مَفْعُول ، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعُول ، قامَ أحدهما مقام الفاعل ، فانتصب الآخرُ ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين :

أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة - : أنه الأول وهو " الأنْفُسُ " فإنه الفاعِل في الأصْلِ ، إذ الأصْل : " حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ " .

والثاني : أنه المفعُول الثاني ، والأصل : وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ ، فلما بُنِي الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ - مقامَ الفَاعِلِ ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً ، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : " أُعْطِي درهمٌ زَيْداً " و " كُسِي جُبَّة عَمراً " ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم ، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي{[9983]} يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل ؛ فإنه قال : " ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ " يعني : أنها مَطْبُوعةٌ عليه ، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى ، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب ، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس . وقرأ العَدَوِي{[9984]} : " الشِّحَّ " بكسر الشين وهي لُغَة ، والشُّحُّ : البُخْل مع حرص ؛ فهو أخَصُّ من البُخْل .

قال القرطبي{[9985]} : وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه ، وجبلَّته ، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه ، ويقال : الشُحُّ : هو البُخْل ، وحقيقته : الحِرْص على مَنْع الخَيْر . والمُرادُ به ههنا : شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر ، فَتَشِحُّ المرأة : ببذل حقِّها ، ويَشِحُّ الزَّوْج : بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها ، وكبر سِنِّها ، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها .

فصل

قال القرطبي{[9986]} : والشُّحُّ : الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة{[9987]} ، وفي الهِمَمِ والأمْوال ، ونحو ذلك ، فما أفْرِط{[9988]} منه على الدِّين ، فهو محمود ، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ ، ففيه بَعْض المذمَّة . وهو قوله - تعالى - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ التغابن : 16 ] الآية ، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع{[9989]} الحُقُوقِ [ الشَّرعيَّة ]{[9990]} أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة ، فهو البُخْلُ ؛ [ و ]{[9991]} هي رذيلة ، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ ، لم يبق [ معه ]{[9992]} خيرٌ ولا صَلاَحٌ .

روى الماوَرْدِيُّ : " أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال للأنْصَار : من سَيِّدُكُم ؟ قالوا : الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه ؛ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : " وأي داء أدْوَى من البُخْلِ " قالوا : وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه ؟ قال : إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل ، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم ، فقالوا : ليَبْعُد [ الرِّجَال ]{[9993]} منَّا عن النِّساء ؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء ، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال ، والنِّسَاء بالنِّسَاء " .

ثم قال : " وإنْ تُحْسِنُوا " أي : تُصْلِحُوا{[9994]} " وتَتَّقوا " : الجور .

وقيل : هذا خِطَابٌ مع الأزواج ، أي : وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض .

وقيل [ هو ]{[9995]} خِطاب لغيرهما ، أي : تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما ، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً ، فيجزيكم بأعْمَالِكُم .

حكى صَاحِب الكَشَّاف : أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ{[9996]} كان من أذَمِّ بني آدَم ، وامرأته من أجْمَلِهِم ، فَنَظَرَت إليه يَوْماً ، ثم قالت : الحَمْدُ للَّهِ ، فقال : مَا لَكِ ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة ؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي ، فشكَرْت ، ورُزِقْتُ مِثْلك ؛ فَصَبَرْتُ ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين .


[9956]:سقط في ب.
[9957]:ينظر البيت في ديوانه ص 156، والإنصاف 2/617، وخزانة الأدب 3/46، 9/37، 39، والدرر 5/8، وشرح أبيات سيبويه 2/88، والكتاب 3/113، وشرح المفصل 9/10، ولسان العرب(وغل)، والمقتضب 2/76، وهمع الهوامع 2/59 والدر المصون 2/436.
[9958]:ينظر: تفسير الرازي 11/52.
[9959]:سقط في ب.
[9960]:يعني عاصما وحمزة والكسائي. ينظر: السبعة 238، والحجة 3/183، وحجة القراءات 213، والعنوان 85، وإعراب القراءات 1/137، 138، وشرح الطيبة 4/217 وشرح شعلة 344، وإتحاف 1/521.
[9961]:ينظر: المحرر الوجيز 2/119، والدر المصون 2/436.
[9962]:ينظر: المحرر الوجيز 2/119، والبحر المحيط 3/379، والدر المصون 2/436.
[9963]:ينظر: السابق.
[9964]:ينظر: الإملاء 1/197.
[9965]:ينظر: الكشاف 1/571.
[9966]:في ب: محصول.
[9967]:سقط في ب.
[9968]:في أ: بين.
[9969]:في ب: سلمة.
[9970]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/275) وينظر تفسير البغوي (1/486) وأسباب النزول للواحدي ص 137.
[9971]:أخرجه الترمذي (5/232) كتاب تفسير القرآن باب سورة النساء حديث (3040) والطيالسي (2/17- منحة) حديث (1944) والبيهقي (7/297) من حديث ابن عباس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/410) وزاد نسبته للطبراني وابن المنذر.
[9972]:سقط في ب.
[9973]:في ب: غيري.
[9974]:سقط في ب.
[9975]:أخرجه البخاري (9/266) والطبري(9/271) من حديث عائشة وكذلك البيهقي (7/296).
[9976]:ينظر: تفسير الرازي (11/52) عن سعيد بن جبير.
[9977]:سقط في ب.
[9978]:ينظر: تفسير البغوي 1/486.
[9979]:في أ: طلاقها.
[9980]:سقط في أ.
[9981]:سقط في ب.
[9982]:في أ: لا يحتاج فيه فلا.
[9983]:ينظر: الكشاف 1/571.
[9984]:ينظر: البحر المحيط 3/380، والدر المصون 2/437.
[9985]:ينظر: تفسير القرطبي 5/260.
[9986]:ينظر: تفسير القرطبي 5/260.
[9987]:في أ: إلا زادات.
[9988]:في ب: أقول.
[9989]:في ب: تقع.
[9990]:سقط في ب.
[9991]:سقط في ب.
[9992]:سقط في أ.
[9993]:سقط في أ.
[9994]:في ب: تصتلموا.
[9995]:سقط في ب.
[9996]:في ب: الجارحي.