[ قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }{[9956]}
وقوله : " وإن امْرَأَةٌ " : " امرأةٌ " فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار ، وهذه من باب الاشْتِغَال ، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء ، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين ، خلافاً للأخفش ، والكُوفيِّين ، والتقديرُ : " وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ " ، ونحوهُ :
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [ التوبة : 6 ] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم : بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ : [ الخفيف ]
وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي{[9957]}
قال بعضهم : خافت ، أي : عَلِمَت ، وقيل : ظَنَّت . قال ابن الخطِيب{[9958]} : ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر ؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [ تدلُّ عليه ]{[9959]} من جِهَة الزَّوْجِ ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ .
قوله " مِن بَعْلِها " يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب " خَافَت " وهو الظَّاهِر ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من : " نُشوزاً " إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها ، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً ، فنُصِب حالاً ، و " فلا " جَوَابُ الشَّرْطِ ، والبَعْل : يطلق على الزَّوْج ، وعلى السَّيِّد .
قوله " أَن يُصْلِحَا " قرأ الكوفيون{[9960]} : " يُصْلِحا " من أصْلَح ، وباقي السَّبْعة " يَصَّالحا " بتشديد الصَّاد بعدها ألف ، وقرأ{[9961]} عثمان البتي والجَحْدَري : " يَصَّلِحا " بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ : " يُصالِحا " {[9962]} بضمِّ الياءِ ، وتخفيفِ الصَّادِ ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة ، وابن مَسْعُود ، والأعْمش{[9963]} : " أن اصَّالحا " .
فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ .
وقراءةُ باقي السَّبْعَة ، أصلُهَا : " يتصالحا " ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً ؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت ، كقوله : " ادّاركوا " . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان ، فأصلُها : " يَصْطَلِحا " فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً ، وإدغامها فيما بَعْدَها .
وقال أبو البقاء{[9964]} : " وأصله : " يَصْتَلِحا " فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى " وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة ؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة ، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً ؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه .
وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ ؛ لأنها من المُصَالَحة .
وأما قِرَاءة : " يَصْطَلِحَا " فأوضحُ ، ولم يُخْتَلَفْ في " صُلْحاً " مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ .
فإنه على قِرَاءة الكوفيين : يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً ، وناصبُه : إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات ، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً . وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان :
أحدُهما : أنه " بَيْنَهُمَا " اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به .
والثاني : أنه مَحْذُوف و " بينهما " ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ " صلحاً " فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ " صُلْحاً " على المَفْعُول به ، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه ؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى : المُعْطى ، والثبات بِمَعْنَى : المُثْبَت .
وأمَّا على بقيةِ القِراءَاتِ : فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين : أعني : كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد ، فيكون وَاقِعاً موقع " تَصَالَحَا ، أو اصْطِلاَحاً ، أو مصالحةً " حَسْبَ القِرَاءَات المتقدِّمة ، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ ، أي : بصُلْحِ ، أي : بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة ، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه .
والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الكوفِيِّين ، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءَاتِ .
قوله : " والصُّلْحُ خيرٌ " : مبتدأ وخبر ، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري{[9965]} فيها وفي التي بعدها : " إنهما اعْتِرَاضٌ " ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يُريد أنَّ قوله : " وإنْ يتفرَّقا " مَعْطُوفٌ على قوله : " فَلاَ جُنَاْحَ " فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً ؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر ، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع : إنها اعْتِرَاضٌ ، ولا يَخُص : " والصُّلْح خَيْر " ، وأُحْضِرَتِ الأنفسُ [ الشُّح ] بذلك ، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك : الاعتراض بَيْن قوله : " وإن امْرَأةٌ " وقوله : " وَإِن تُحْسِنُواْ " فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى ، فإنه قال : " وإن تحسنُوا بالإقَامَة على نِسَائِكُم ، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن ، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض " انتهى .
والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس ، وأن تكونَ للعهْد ؛ لتقدُّمِ ذكره ، نحو :
{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 16 ] .
فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ ، أم لاَ ؟ فإن قُلْنَا : يفيد العُمَوم ؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود{[9966]} سِابِقٌ ، فهل يُحْمَل على العُمُوم ، أم على المَعْهُود السِّابق ؟ [ و ]{[9967]} الأوْلى : حَمْله على المَعْهُود السَّابِق ، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة ، وصار مُجْمَلاً ، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ ، اندفع هذا المَحْذُور ، فوجب حَمْلُه عليه .
وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة : فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق ، قال : الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة ، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على{[9968]} الإنْكَار جَائز ، وهُمُ الحَنفيَّة و " خير " : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها ، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ ، فقيل : تقديرُه : من النُّشُوز ، والإعْرَاض ، وقيل : خيرٌ من الفُرْقَة ، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى ؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة ، ويُحْتمل أن تَكون صِفَةً مجرَّدَةً ، أي : والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور ؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور .
هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال : خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة ، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع ، ويقال : رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة ، فلما علاَهَا الكِبَر ، تزوَّجَ عليها امْرَأة شابَّةً ، فآثرها عليها ، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة{[9969]} ، فأتت رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إلَيْه ، فنزلت الآية{[9970]} .
وقيل : نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة ، حين أرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطَلِّقها ، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة{[9971]} ، فأجازَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يطلقها .
وروي عن عَائِشَة ، أنها قَالَت : نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل ، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [ بها ]{[9972]} غيرها ، فتقول : أمْسِكْنِي ، وتزوج بِغَيْري{[9973]} ، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [ والقَسْم{[9974]} ]{[9975]} .
وقال سَعِيد بن جُبَير : نزلت في أبِي السَّائِب ، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت ، وله مِنْهَا أوْلاد ، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، ودعنِي على وَلَدِي ، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي ، فقال : إن كَانَ يصلحُ ذَلِك ؛ فهو أحَبُّ إليّ ، فأتَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ ذَلِك . فأنزل الله { وإن امْرأةٌ خافت }{[9976]} أي : علمت قيل : وظَنَّتْ ، وقيل : مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ ظُهُور ]{[9977]} أمارات النُّشُوز ، وهو البُغْضُ والشِّقَاق ، من النَّشْز : وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض .
قال الكَلْبِيُّ{[9978]} : نشوز الرَّجُل : ترك مُجَامَعَتِها ، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها ، وقلة مُجَالَسَتِها ، { فلا جناح عليهما } أي : على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا ، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له ، وحقُّ المرأة على الزَّوْج : إما المَهْر ، أو النَّفَقَة ، أو القَسْم . فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها{[9979]} من الزَّوْجِ ، شاء أم أبَى ، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر ، وإذا كَان كَذَلك ، فإذا بذلت المَرْأة ما تسْتحِقُّهُ ، أو بعضه للزَّوْج ، وتصالحا على ذَلِكَ جَاز ، فإن رَضِيَت ، كَانَتْ هي المُحْسِنَة ، ولا تُجْبَر على ذلك ، وإن لم تَرْضَ ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [ أو يُسَرِّحها بإحْسَان ، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ ، فهو المُحْسِن .
وروى سُليْمَان بن يَسَار ، عن ابن عبَّاسٍ : فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ ، ]{[9980]} فذلك جائز ما رَضِيت ، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح ، فذلك لَهَا ، ولها حَقُّهَاِ .
ثم قال : " والصُّلْح خَيْر " [ يعني : إقَامَتَهَا ]{[9981]} بعد تَخْييره إيَّاهَا ، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها ، خَيْر من الفُرقَة .
كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً ، أراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُفَارِقَهَا ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة ، فأمْسَكَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يَقْسمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة .
قال - تعالى - : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا } ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة ، والغايةُ فيه : ارْتِفَاع الإثْم ، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا{[9982]} إثْم ، ففيه خَيْر عَظِيمٌ .
قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } " حَضَر " يتعدى إلى مَفْعُول ، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعُول ، قامَ أحدهما مقام الفاعل ، فانتصب الآخرُ ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين :
أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة - : أنه الأول وهو " الأنْفُسُ " فإنه الفاعِل في الأصْلِ ، إذ الأصْل : " حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ " .
والثاني : أنه المفعُول الثاني ، والأصل : وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ ، فلما بُنِي الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ - مقامَ الفَاعِلِ ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً ، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : " أُعْطِي درهمٌ زَيْداً " و " كُسِي جُبَّة عَمراً " ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم ، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي{[9983]} يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل ؛ فإنه قال : " ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ " يعني : أنها مَطْبُوعةٌ عليه ، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى ، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب ، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس . وقرأ العَدَوِي{[9984]} : " الشِّحَّ " بكسر الشين وهي لُغَة ، والشُّحُّ : البُخْل مع حرص ؛ فهو أخَصُّ من البُخْل .
قال القرطبي{[9985]} : وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه ، وجبلَّته ، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه ، ويقال : الشُحُّ : هو البُخْل ، وحقيقته : الحِرْص على مَنْع الخَيْر . والمُرادُ به ههنا : شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر ، فَتَشِحُّ المرأة : ببذل حقِّها ، ويَشِحُّ الزَّوْج : بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها ، وكبر سِنِّها ، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها .
قال القرطبي{[9986]} : والشُّحُّ : الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة{[9987]} ، وفي الهِمَمِ والأمْوال ، ونحو ذلك ، فما أفْرِط{[9988]} منه على الدِّين ، فهو محمود ، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ ، ففيه بَعْض المذمَّة . وهو قوله - تعالى - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ التغابن : 16 ] الآية ، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع{[9989]} الحُقُوقِ [ الشَّرعيَّة ]{[9990]} أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة ، فهو البُخْلُ ؛ [ و ]{[9991]} هي رذيلة ، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ ، لم يبق [ معه ]{[9992]} خيرٌ ولا صَلاَحٌ .
روى الماوَرْدِيُّ : " أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال للأنْصَار : من سَيِّدُكُم ؟ قالوا : الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه ؛ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : " وأي داء أدْوَى من البُخْلِ " قالوا : وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه ؟ قال : إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل ، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم ، فقالوا : ليَبْعُد [ الرِّجَال ]{[9993]} منَّا عن النِّساء ؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء ، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال ، والنِّسَاء بالنِّسَاء " .
ثم قال : " وإنْ تُحْسِنُوا " أي : تُصْلِحُوا{[9994]} " وتَتَّقوا " : الجور .
وقيل : هذا خِطَابٌ مع الأزواج ، أي : وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض .
وقيل [ هو ]{[9995]} خِطاب لغيرهما ، أي : تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما ، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً ، فيجزيكم بأعْمَالِكُم .
حكى صَاحِب الكَشَّاف : أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ{[9996]} كان من أذَمِّ بني آدَم ، وامرأته من أجْمَلِهِم ، فَنَظَرَت إليه يَوْماً ، ثم قالت : الحَمْدُ للَّهِ ، فقال : مَا لَكِ ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة ؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي ، فشكَرْت ، ورُزِقْتُ مِثْلك ؛ فَصَبَرْتُ ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين .