اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا} (137)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }*{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }*{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ [ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } ]{[10105]}

لما أمر بالإيمان ، ورغَّب فيه ، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان .

قال قتادة : هم اليَهُود ؛ آمَنُوا بِمُوسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ ثم آمَنُوا بالتَّوْراة ]{[10106]} ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام - ، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم{[10107]} .

وقيل : هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم ، ثم كَفَرُوا به ، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه ، ثم كَفَرُوا به ، وكفرهم به : تركهم إيَّاه ، أي : ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : هذا في قَوْم مُرْتَدِّين ، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا ، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ : أنه لا تُقْبَل تَوْبَته ، بل يُقْتَل ؛ لقوله - تعالى - : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم ، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم ، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب ، ومن كان كَذَلِك ، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً ، فهذا هُو المُرادُ بقوله : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وليس المُرَادُ ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح ، لم يكُن مُعْتَبَراً ، بل المراد مِنْهُ : الاستِبْعَاد ، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه .

وقال مُجَاهِدٌ : { ثم ازدادوا كفراً } أي : مَاتُوا عليه ، { لم يكن الله ليغفر لهم } : ما أقامُوا على ذلك ، { ولا ليهديهم سبيلاً } أي : طريقاً إلى الحَقِّ .

وقيل : المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب ، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ ، فكانوا يُظْهرُونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى ، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم : { آمِنُواْ [ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ ]{[10108]} وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] وقوله : { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء ، والسُّخْرية بالإسْلامِ .

فصل

دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان ؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك ؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ ؛ فإذا{[10109]} قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت ، فكذلك الآخَر .

فإن قيل : الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية : إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة{[10110]} ، أو بما بَعْدَها .

والأوَّل : باطِلٌ ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق ، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة .

والثاني : باطل ؛ لأن الكُفْر [ يُغْفَر ]{[10111]} بعد التَّوْبَة ، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة ، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ .

والجوابُ من وُجُوه :

أحدها : ألا نَحْمِل قوله : " إنَّ الَّذين " على الاسْتِغْرَاق ، بل على المَعْهُود السَّابق ، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر ، ولا يَتُوبون عَنْه ، فقوله : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إخبار عن مَوْتِهم على الكُفْر .

وثانيها : أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد ، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر ، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع ، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم ، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً .

وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر ، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة .

قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش ، وخيانتهم أعْظَم ، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى ، فجرى مُجْرَى قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ }

[ الأحزاب : 7 ] خصَّهُما{[10112]} بالذِّكر لأجل التشريف ، وكقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .

فإن قيل : اللاَّم في قوله : " لِيَغْفِرَ لَهُم " : للتأكيد ، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع ، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي .

فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي ، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله : { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 179 ] ، تقدَّم الكلام فيه ، ومَذَاهب النَّاس ، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد ، والفرق بَيْن قَوْلك : " مَا كَانَ زَيْد يَقُوم " ، و " ما كانَ لِيَقُوم " .

قوله : { ولا ليهديهم سبيلاً } يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ]{[10113]} الكافرين إلى الإيمَانِ .

وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف ، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة .


[10105]:سقط في ب.
[10106]:سقط في ب.
[10107]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(9/315) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/415) وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[10108]:سقط في أ.
[10109]:في ب: وإذا.
[10110]:في ب: التوراة.
[10111]:سقط في أ.
[10112]:في ب: خصهم.
[10113]:سقط في أ.