قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }*{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }*{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ [ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } ]{[10105]}
لما أمر بالإيمان ، ورغَّب فيه ، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان .
قال قتادة : هم اليَهُود ؛ آمَنُوا بِمُوسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ ثم آمَنُوا بالتَّوْراة ]{[10106]} ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام - ، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم{[10107]} .
وقيل : هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم ، ثم كَفَرُوا به ، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه ، ثم كَفَرُوا به ، وكفرهم به : تركهم إيَّاه ، أي : ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هذا في قَوْم مُرْتَدِّين ، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا ، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ : أنه لا تُقْبَل تَوْبَته ، بل يُقْتَل ؛ لقوله - تعالى - : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم ، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم ، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب ، ومن كان كَذَلِك ، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً ، فهذا هُو المُرادُ بقوله : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وليس المُرَادُ ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح ، لم يكُن مُعْتَبَراً ، بل المراد مِنْهُ : الاستِبْعَاد ، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه .
وقال مُجَاهِدٌ : { ثم ازدادوا كفراً } أي : مَاتُوا عليه ، { لم يكن الله ليغفر لهم } : ما أقامُوا على ذلك ، { ولا ليهديهم سبيلاً } أي : طريقاً إلى الحَقِّ .
وقيل : المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب ، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ ، فكانوا يُظْهرُونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى ، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم : { آمِنُواْ [ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ ]{[10108]} وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] وقوله : { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء ، والسُّخْرية بالإسْلامِ .
دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان ؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك ؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ ؛ فإذا{[10109]} قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت ، فكذلك الآخَر .
فإن قيل : الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية : إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة{[10110]} ، أو بما بَعْدَها .
والأوَّل : باطِلٌ ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق ، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة .
والثاني : باطل ؛ لأن الكُفْر [ يُغْفَر ]{[10111]} بعد التَّوْبَة ، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة ، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ .
أحدها : ألا نَحْمِل قوله : " إنَّ الَّذين " على الاسْتِغْرَاق ، بل على المَعْهُود السَّابق ، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر ، ولا يَتُوبون عَنْه ، فقوله : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إخبار عن مَوْتِهم على الكُفْر .
وثانيها : أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد ، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر ، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع ، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم ، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً .
وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر ، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة .
قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش ، وخيانتهم أعْظَم ، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى ، فجرى مُجْرَى قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ }
[ الأحزاب : 7 ] خصَّهُما{[10112]} بالذِّكر لأجل التشريف ، وكقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
فإن قيل : اللاَّم في قوله : " لِيَغْفِرَ لَهُم " : للتأكيد ، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع ، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي .
فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي ، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله : { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 179 ] ، تقدَّم الكلام فيه ، ومَذَاهب النَّاس ، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد ، والفرق بَيْن قَوْلك : " مَا كَانَ زَيْد يَقُوم " ، و " ما كانَ لِيَقُوم " .
قوله : { ولا ليهديهم سبيلاً } يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ]{[10113]} الكافرين إلى الإيمَانِ .
وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف ، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.