اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا} (139)

ثم وصَفَ المُنَافِقِين ، فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني : يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء ، وأنْصاراً ، وبِطَانة من دُون المُؤمنين ، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم{[11]} ، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ : إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ .

قوله : " الَّذِين " يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع ، فالنصب من وَجْهَيْن :

أحدهما : كونه نعتاً للمُنَافِقِين .

والثاني : أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر ، أي أذمُّ الَّذِين ، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : هم الَّذِين .

فصل

قال القُرْطُبِيُّ{[12]} : وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين ، ليس بمنافِقٍ ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار ، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار ، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين ، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رضي الله عنها - : " أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِل مَعَه ، فقال : ارجعْ ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ " {[13]} .

قوله : { أيبتغون عندهم العزة } أي : المَعُونة ، والظُّهور على محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل : أيطلبون{[14]} عندهُم القُوَّة ، والغَلَبة ، والقُدْرة .

قال الواحدي{[15]} : أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة : الشِّدَّة ، ومنه : قيل : للأرْضِ [ الصَّلْبَة ]{[16]} الشَّديدة : عزَاز ويقال : قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ : إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ ، ومنه : [ عَزَّ ]{[17]} عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى : اشتَدَّ ، وعز الشَّيْء : إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد ؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ ، واعتز فلانٌ بفلان : إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به ، وشاةٌ عَزُوزٌ : إذا اشتَدَّ حَلْبُها ، والعِزَّة : القُوَّة ، منقولة عن الشِّدَّة ؛ لتقارب مَعْنَيْهما ، والعَزِيز : القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل ، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة ، بسبب اتِّصالهم باليَهُود ، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله : { فإن العزة لله جميعاً } .

والثاني : قوله : " فإن العزة " لِما في الكلام من معنى الشَّرْط ، إذ المَعْنَى : إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً { فإن العزة لله جميعاً } ، و " جَمِيعاً " : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله : " لِلَّه " لوُقُوعهِ خَبَراً ، [ والمعنى : أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً ]{[18]} .

فإن قيل : هذا كالمُنَاقض لقوله : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .

فالجواب : أن القُدْرة الكامِلَة للَّه ، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً ، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً ، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى - ، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ : أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً .


[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".