قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ } أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب{[47955]} قاله البغوي{[47956]} .
واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله ، وهم المذكورون في قوله { مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } [ غافر : 4 ] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ{[47957]} .
قوله { إذْ تُدْعَوْنَ } منصوب بمقدر يدل عليه ( هذا الظاهر{[47958]} ، تقديره مقتكم إذ تدعون ، وقدّره بعضهم : اذكروا إذ تدعون ){[47959]} . وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول{[47960]} . ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر{[47961]} ، وقال : هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِئ فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم{[47962]} ، قال شهاب الدين : وَمِثْلُ هذا لا يخفى على أبي القاسم ، وإنما أراد أنه دال على ناصبه{[47963]} ، ( و ){[47964]} على تقدير ذلك فهو مذهب كوفي قال به . أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَع فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره ، وأيُّ غموض في هذا حتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء ؟ ولله درّ القائل :
4321 حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ *** فالقَوْمُ أعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا *** كَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ{[47965]}
وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله ؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله { أَكْبَرُ } فمن ثم أخذه أبو حيان ، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة{[47966]} . والظاهر أن «مقت الله » واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية . وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى { إذْ تُدْعَوْنَ } مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره ( مقتكم ){[47967]} . قال شهاب الدين : وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه{[47968]} .
واللام في { لَمَقْتُ } لام اتبداء{[47969]} ، أو قسم{[47970]} ، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف{[47971]} لفاعله كالثاني . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في { أنفسكم } بين المقتين ؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله{[47972]} .
لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله ، ومن جوز فقال : يلتزم ( إعمال ){[47973]} الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه ، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع .
ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً :
الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا .
الثاني : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، والمراد قتل بعضهم بعضاً .
الثالث : قال محمد بن كعب ( القُرَظِيّ ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلى قوله : { ولوموا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ{[47974]} .
المقت : أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه الإنكار والزجر{[47975]} ، قال الفراء قوله { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله } معناه ينادون أن مقت الله ، يقال : ناديت إن زيداً قائمٌ ، وناديت لَزَيْدٌ قائم{[47976]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.