اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِيمَٰنِ فَتَكۡفُرُونَ} (10)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ } أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب{[47955]} قاله البغوي{[47956]} .

واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله ، وهم المذكورون في قوله { مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } [ غافر : 4 ] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ{[47957]} .

قوله { إذْ تُدْعَوْنَ } منصوب بمقدر يدل عليه ( هذا الظاهر{[47958]} ، تقديره مقتكم إذ تدعون ، وقدّره بعضهم : اذكروا إذ تدعون ){[47959]} . وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول{[47960]} . ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر{[47961]} ، وقال : هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِئ فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم{[47962]} ، قال شهاب الدين : وَمِثْلُ هذا لا يخفى على أبي القاسم ، وإنما أراد أنه دال على ناصبه{[47963]} ، ( و ){[47964]} على تقدير ذلك فهو مذهب كوفي قال به . أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَع فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره ، وأيُّ غموض في هذا حتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء ؟ ولله درّ القائل :

4321 حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ *** فالقَوْمُ أعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ

كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا *** كَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ{[47965]}

وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله ؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله { أَكْبَرُ } فمن ثم أخذه أبو حيان ، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة{[47966]} . والظاهر أن «مقت الله » واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية . وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى { إذْ تُدْعَوْنَ } مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره ( مقتكم ){[47967]} . قال شهاب الدين : وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه{[47968]} .

واللام في { لَمَقْتُ } لام اتبداء{[47969]} ، أو قسم{[47970]} ، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف{[47971]} لفاعله كالثاني . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في { أنفسكم } بين المقتين ؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله{[47972]} .

لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله ، ومن جوز فقال : يلتزم ( إعمال ){[47973]} الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه ، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع .

فصل

ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً :

الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا .

الثاني : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، والمراد قتل بعضهم بعضاً .

الثالث : قال محمد بن كعب ( القُرَظِيّ ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلى قوله : { ولوموا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ{[47974]} .

فصل

المقت : أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه الإنكار والزجر{[47975]} ، قال الفراء قوله { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله } معناه ينادون أن مقت الله ، يقال : ناديت إن زيداً قائمٌ ، وناديت لَزَيْدٌ قائم{[47976]} .


[47955]:في ب: قال بدون عائد وهو خطأ والتصحيح ما هو مثبت أعلى من أ فالمقول السابق للبغوي لا اللاحق.
[47956]:معالم التنزيل 6/90.
[47957]:قاله الرازي في التفسير الكبير 27/38.
[47958]:ما بين قوسين ساقط من أ الأصل ومثبت في ب والسمين 4/679.
[47959]:قال بذلك ابن الأنباري في البيان 2/328، 329.
[47960]:الكشاف 3/417.
[47961]:قال: لأن المقت مصدر ومعموله من صلته، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته وقد أخبر عنه بقوله "أكبر من مقتكم".
[47962]:انظر البحر بالمعنى 7/452، 453.
[47963]:هذا دفاع من السمين عن الزمخشري ولكن صريح عبارة الزمخشري أنه منصوب بنفس المقت. وانظر الدر المصون 4/678 والكشاف 417.
[47964]:الواو سقطت من ب.
[47965]:هذا كله من كلام السمين في إطار دفاعه عن الزمخشري في الدر 4/679 والبيتان من الكامل وجيء بهما تضمينا في إطار الدفاع عن الزمخشري من السمين شهاب الدين وقد نسب هذا البيتان لأبي الأسود الدؤلي وانظر حاشية الأمير على المغني 179/1 والأشموني 2/218 والهمع 2/32 واللسان "ذمم" والسبع الطوال لابن الأنباري 267 والدر المصون 4/679 وفي البيت الثاني شاهد لا مجال لنا فيه الآن.
[47966]:قاله مكي في المشكل 2/264 وأبو البقاء في التبيان 1116 وابن الأنباري في البيان 2/329 والسمين في الدر 4/679.
[47967]:بالمعنى من البحر المحيط 7/452 وانظر الدر المرجع السابق.
[47968]:الدر المرجع السابق.
[47969]:قاله الأخفش في معانيه 675 ونقله القرطبي في الجامع 15/296.
[47970]:ذكرع أبو حيان في البحر 4/452 والسمين في الدر 4/679.
[47971]:السابقين وانظر أيضا التبيان 1116.
[47972]:الدر المصون 4/679.
[47973]:سقط هذا من ب على هيئة بياض.
[47974]:انظر الرازي 27/38.
[47975]:انظر الرازي 27/38.
[47976]:معاني القرآن له 3/7.