اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ} (34)

قوله : { أوْ يُوبِقْهُنَّ } عطف على { يُسْكِنْ } قال الزمخشري : لأن المعنى : إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ{[49382]} بِعَصْفِهَا ، قال أبو حيان : ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ{[49383]} .

قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين ، وإنما ذكر شيئاً مناسباً ؛ لأن قوله : يسكن الرياح يقابله «يعصفها » فهو في غاية الحسن والطِّباق{[49384]} .

فصل

معنى «يُوبِقْهُنَّ » يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن «بِمَا كَسَبُوا » أي بما كسبت ركابها من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من ذنوبهم فلا يعاقب عليها{[49385]} . يقال : أوْبَقَهُ أي أهلكه ، كما يقال للمجرم : أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته{[49386]} .

فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله ؟

فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناساً ينج ناساً على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ «ويعفو » فقد استأنف الكلام{[49387]} ؟ والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط . واستشكله القشيريُّ ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف : «وَيَعْفُ » على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف ، وليس المعنى على ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى{[49388]} . قال أبو حيان : وما قاله ليس يجيّد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم{[49389]} . وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو{[49390]} . وهي تحتمل أن تكون كالمجزوم ، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في «مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ »{[49391]} .

ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً ، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات{[49392]} .

وقرأ بعض أهل المدينة{[49393]} {[49394]} بالنصب بإضمار «أنْ » بعد الواو كنصبه في قول النابغة : شعراً :

4385 فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ *** رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ

وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ *** أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ{[49395]}

بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه ، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من «أَنْ » المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم{[49396]} من الفعل قبله تقديره : أو يقع إيباقٌ ، وعفوٌ عن كثيرٍ . فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله{[49397]} .


[49382]:الكشاف 3/471.
[49383]:بالمعنى من البحر 7/521.
[49384]:بالمعنى من البحر 4/758.
[49385]:قاله البغوي في 6/126 من معالم التنزيل.
[49386]:قاله ابن قتيبة في غريب القرآن 393، واللسان "وبق" 4755.
[49387]:قاله الرازي في التفسير الكبير 27/175.
[49388]:القرطبي في الجامع بتصرف 16/33.
[49389]:البحر المحيط 7/521.
[49390]:السابق وانظر الكشاف 2/471 والقرطبي بدون نسبة فيهما 16/33.
[49391]:وهي قراءة ابن كثير وصلا ووقفا. السبعة 351 وهي من الآية 90 من يوسف.
[49392]:بالمعنى من الكشاف 3/471 وباللفظ من الدر المصون 4/759.
[49393]:أخبر ابن مجاهد في السبعة 581، أنهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي.
[49394]:زيادة من ب.
[49395]:بيتان من تمام الوافر له مدحا في النعمان بن الحارث، والذباب عقب كل شيء، و "أجب الظهر" مقطوع السنام. والشاهد في "وتأخذ" حيث يجوز فيه النصب والرفع والجزم فالجزم على العطف والنصب على الإضمار والرفع على الاستئناف، وقد تقدم.
[49396]:أو متصيد.
[49397]:البحر المحيط 7/520 والدر المصون 4/759.