اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَزَـٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (40)

ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة{[49452]} فقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ثم بين أن العفو أولى بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } فزال السؤال .

قوله : «هُمْ يَنْتَصِرُونَ » إعرابه كإعراب : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } ففيه ما تقدم ، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون «هُمْ » توكيداً للضمير المنصوب في «أصَابَهُمْ » أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، والظاهر أنه غير ممنوعٍ{[49453]} .

قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . } الآية لما قال : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل ، فإن العدل هو المساواة ، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري : كلتا الفعلتين : الأولى : وجزاؤها سيئة ؛ لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] يريد : ما يسوءهم من المصائب والبلاء{[49454]} . وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر{[49455]} .

وقال آخرون : إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة{[49456]} .

فصل

قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء . وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي{[49457]} . قال سفيان بين عيينة : قلت لسفيان الثوريِّ : ما قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ؟ قال : أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً ، فسألت هشام بن حجيرٍ{[49458]} عن هذه الآية فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه{[49459]} .

فصل

دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد ؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين ، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً ( ف ){[49460]} يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص ، لأنه لا قائل بالفرق ، فوجب أن يجري القصاص بينهما . والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية ، وقوله : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر : 40 ] وقوله { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] وقوله تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] . والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله . ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن ( كل ){[49461]} أولئك القاطعين أو عن بعضهم . فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص .

فإن قيل : فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع ! .

فالجواب : أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى . ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله . ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه ، ومن غرَّق غرقناه ، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص ؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم . ودلت أيضاً على أن المكره{[49462]} يجب عليه القود{[49463]} ، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه ، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة ، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال{[49464]} .

قوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله » . قال الحسن رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا . ثم قرأ هذه الآية { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49465]} : الذين يبدأون بالظلم{[49466]} ، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً .

وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه{[49467]} .


[49452]:انظر هذا في تفسير العلامة فخر الدين الرازي 27/177.
[49453]:هو قول أبي حيان في البحر 7/522 قال: وقال الحوفي: وإن شئت جعلت "هم" توكيدا للهاء والميم يعني في أصابهم، وهو ضمير رفع، وفي هذا نظر، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل (وهو البغي) وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع. البحر 7/522 فكأن الرأي أورده المؤلف أعلى هو رأي الحوفي نقلا عن السمين في الدر عن أبي حيان في البحر، وانظر الدر المصون 4/762.
[49454]:في الكشاف: والبلايا وانظر الكشاف 3/473.
[49455]:وانظر الرازي 27/178.
[49456]:البغوي 6/127.
[49457]:الخازن والبغوي السابق 6/127.
[49458]:في ب حجة تحريف وتصحيف وهو هشام بن حجير ـ مصغرا ـ المكي صدوق له أوهام من السادسة. انظر تقريب التهذيب 2/317.
[49459]:انظر معالم التنزيل للبغوي 6/317.
[49460]:زيادة من أ.
[49461]:سقط من ب.
[49462]:في ب المكذب.
[49463]:هو قتل النفس بالنفس شاذ كالحوكة والخونة، وقال الجوهري: هو القصاص. انظر اللسان والصحاح قود.
[49464]:وكل هذه الأشياء عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فيما نقله عنه الرازي في التفسير الكبير.
[49465]:زيادة من أ الأصل.
[49466]:انظر معالم التنزيل 6/127.
[49467]:الرازي 27/181.