ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة{[49452]} فقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ثم بين أن العفو أولى بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } فزال السؤال .
قوله : «هُمْ يَنْتَصِرُونَ » إعرابه كإعراب : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } ففيه ما تقدم ، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون «هُمْ » توكيداً للضمير المنصوب في «أصَابَهُمْ » أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، والظاهر أنه غير ممنوعٍ{[49453]} .
قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . } الآية لما قال : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل ، فإن العدل هو المساواة ، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري : كلتا الفعلتين : الأولى : وجزاؤها سيئة ؛ لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] يريد : ما يسوءهم من المصائب والبلاء{[49454]} . وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر{[49455]} .
وقال آخرون : إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة{[49456]} .
قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء . وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي{[49457]} . قال سفيان بين عيينة : قلت لسفيان الثوريِّ : ما قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ؟ قال : أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً ، فسألت هشام بن حجيرٍ{[49458]} عن هذه الآية فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه{[49459]} .
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد ؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين ، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً ( ف ){[49460]} يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص ، لأنه لا قائل بالفرق ، فوجب أن يجري القصاص بينهما . والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية ، وقوله : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر : 40 ] وقوله { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] وقوله تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] . والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله . ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن ( كل ){[49461]} أولئك القاطعين أو عن بعضهم . فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص .
فإن قيل : فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع ! .
فالجواب : أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى . ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله . ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه ، ومن غرَّق غرقناه ، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص ؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم . ودلت أيضاً على أن المكره{[49462]} يجب عليه القود{[49463]} ، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه ، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة ، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال{[49464]} .
قوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله » . قال الحسن رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا . ثم قرأ هذه الآية { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49465]} : الذين يبدأون بالظلم{[49466]} ، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً .
وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه{[49467]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.