قوله تعالى : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ } كقوله : «كالَّذِي خَاضُوا »{[49225]} . وقد تقدم تحقيقه . وتقدمت القراءات في يُبَشِّرُ{[49226]} . وقرأ مجاهدٌ وحُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ : يُبْشِرُ بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين{[49227]} من أَبْشَرَ منقولاً من بَشِرَ بالكسر لا من بَشَرَ بالفتح ؛ لأنه متعدٍّ والتشديد في «بشر » للتكثير لا للتعدية ، لأنه متعد بدونها{[49228]} .
ونقل أبو حيان قراءة يَبْشُرُ بفتح الياء وضم الشين عن حمزة والكسائي{[49229]} ( أي ){[49230]} من السَّبعة ، ولم يذكر غيرهما من السبعة ، وقد وافقهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو{[49231]} . و«ذلك » مبتدأ ، والموصول بعده خبره ، وعائده محذوف على التدريج المذكور كقوله «كالَّذِي خَاضُوا » أي يُبَشِّرُ بِهِ{[49232]} ، ثم يُبَشِّرُهُ{[49233]} على الاتساع . وأما على رأي يونُس{[49234]} فلا يحتاج إلى عائد ؛ لأنها عنده مصدرية وهو قول الفراء{[49235]} أيضاً ، أي ذلك تبشير الله عباده . وذلك إشارة إلى ما أعده الله تعالى لهم من الكرامة . وقال الزمخشري{[49236]} : أو ذلك التبشير الذي يبشِّره الله عباده . قال أبو حيان : وليس بظاهر ؛ إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من «بَشَّر » أو شبهه{[49237]} .
واعلم أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الشريف ، وأودع فيه أقسام الدلائل والتكاليف ورتبه على لطاعة والثواب وأمره بتبليغه إلى الأمة أمره بأن يقول إني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً حاضراً فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } .
أحدهما : أنه منقطع ؛ إذ ليست المودة من جنس الأجر{[49238]} .
والثاني : أنه متصل{[49239]} ، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودُّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ؛ لأن قرابتهم وكانت صلتهم لازمةً لهم في المودة . قاله الزمخشري{[49240]} .
وقال أيضاً : فإن قلت : هلا قيل : إلاَّ مودَّة القربى ، أو إلا المودة للقربى{[49241]} ؟ !
قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، كقولك : في آل فلان مودة{[49242]} وليست «في » صلة المودة ، كاللام إذا قلت : إلا المودة للقربى{[49243]} ، إنما هي متعلقة بمحذوف فتعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودة ثابتةً في القربى ومتمكنةً فيها{[49244]} .
وقال أبو البقاء : وقيل : متصل ، أي لا أسألكم شيئاً إلا المودة{[49245]} .
قال شهاب الدين : وفي تأويله متصلاً بما ذكر نظر ؛ لمجيئه بشيء الذي هو عام ، وما من استثناء منقطع إلا ويمكن تأويله بما ذكر ، ألا ترى إلى قولك : ما جاءني أحدٌ إلا حمار ، أنه يصح ما جاءني شيء إلا حماراً{[49246]} .
وقرأ زيد بن عليٍّ : «مودة » بدون ألفٍ ولامٍ{[49247]} .
الأول : قال الشَّعبيُّ : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك ، فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان{[49248]} وسط النسب من قريش ليس بطنٌ من بطونهم إلا قد ولده ، وكان له فيهم قرابةٌ ، فقال الله عز وجل { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } على ما أدعوكم إليه إلا أن تؤثروني{[49249]} لقرابتي أي تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني ، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ، ولا تؤذوني{[49250]} . وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضَّحَّاك{[49251]} .
الثاني : روى الكلبي عن ابن عباس ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تَنُوبهُ{[49252]} نوائب وحقوق ، وليس في يده سعةٌ لقالت ( الأنصار ){[49253]} : إن هذا الرجل هداكم{[49254]} هو ابن أخيكم ، وأجاركم من بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ، ففعلوا ثم أتوه بها ، فردها عليهم ونزل قوله تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } أي على الإيمان ( إلا ){[49255]} أن لا تؤذوا أقاربي وعشيرتي ، وتحفظوني فيهم ، قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب{[49256]} .
الثالث : قال الحسن : معناه إلا أن تَوَدُّوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، ورواه ابن أبي نُجَيْحٍ عن مجاهد{[49257]} .
فالقربى على القول الأول بالقرابة التي بمعنى الرَّحِم ، وعلى الثاني بمعنى الأقارب ، وعلى الثالث فُعْلَى من القُرْبِ والتَّقْرِيب .
فإن قيل : طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه :
أحدها : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر ، فقال في قصة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] . . الآية وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليه الصَّلاة والسَّلام ورسولنا أفضل الأنبياء فَبِأَنْ لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى .
وثانيها : أنه عليه الصَّلاة والسَّلام صرَّح بنفي طلب الأجر فقال : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] وقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } [ سبأ : 47 ] . . الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء .
ورابعها : أن النبوة أفضل من الحكمة ، وقد قال تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ووصف الدنيا بأنها متاع قليل فقال : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] فكيف يحسن بالعاقل مقابلة أشرف الأنبياء بأخس{[49258]} الأشياء ؟ !
وخامسها : أن طلب الأجر يوجب التهمة ، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة ، وهاهنا قد ذكر ما يجري مَجْرَى طلب الأجر وهو المودة في القربى ( هذا تقرير{[49259]} السؤال ) .
فالجواب : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ ، وأما قوله : إلا المودة في القربى فالجواب عنه من وجهين :
4380 وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ{[49260]}
يعني أنا لا أطلب منكم إلا هذا . وهذا في الحقيقة ليس أجراً ؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : «المُؤْمِنُونَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً »{[49261]} والآيات والأخبار في هذا كثيرة . وإذا{[49262]} كان حصول المودة بين المسلمين واجب فحصولها في حق أشرف المسلمِين أولى ، فقوله : { إلا المودة في القربى } تقديره والمودة في القربى ليست أجراً ، فرَجَعَ الحاصل إلى أنه{[49263]} لا أجر ألبتة .
الثاني : إن هذا استثناء منقطع ، وتم الكلام عند قوله : { لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } ثم قال : { إِلاَّ المودة فِي القربى } أي أذكركم قرابتي منكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر{[49264]} .
اختلفوا في قرابته ، فقيل : هم فاطمة وعلى وأبناؤهما ، وفيهم نزل : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
وروى زيد بن أرقم{[49265]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كتابَ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلَ بَيْتِي وَأُذَكِّرُكُم الله في أَهْلِ بَيْتِي »{[49266]} قيل لزيد بن أرقم : فمن أهل بيته ؟
فقال : هم آلُ عليِّ وآل عَقِيل وآل جعفر ، وآل عباس رضي الله عنهم وروى ابن عمر عن ابن بكر رضي الله تعالى عنه قال : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وقيل : هم الذي تحرم عليه الصدقة من أقاربه ويقسم فيه الخًمسُ وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب الذين لم يتفرقوا بجاهلية ولا إسلام . وقيل : هذه الآية منسوخة ، وإليه ذهب الضحاك بن مُزاحم والحسين بن الفضل . قال البغوي وهذا قول ( غير ){[49267]} مرضٍ ؛ لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين{[49268]} .
قوله تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } أي من يكتسب طاعة { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامة على «نَزد » بالنون ، وزيد بن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمرو يَزِدْ بالياء{[49269]} من تحت ، أي يزِد الله . والعامة «حُسْناً » بالتنوين مصدراً على «فُعْلٍ » نحو : شُكر وهو مفعول به ، وعبد الوارث عن أبي عمرو حُسْنَى بألف التأنيث{[49270]} على وزن بُشْرَى ، ورُجْعَى ، وهو مفعول به أيضاً . ويجوز أن يكون صفة كفُضْلَى ، فيكون وصفاً لمحذوف أي خصْلَةً حُسْنَى . قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب المودة في القُرْبَى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودَّةِ{[49271]} .
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } : للقليل ( حتى يضاعفها ){[49272]} والشكر في حق الله تعالى مجاز ، والمعنى أنه تعالى يُحْسِنُ للمطيعين في إيصال الثواب إليهم ، وفي أن يزيدَ عليهم أنواعاً كثيرةً من التفضل .