اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ .

وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم ، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ ، أيْ : هُمْ سمَّاعون .

وكذلك " أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " في " اللاَّمِ " الوجهانِ المذكورانِ في قوله : " لِلْكَذِبِ " .

و " السُّحْتُ " الحَرَامُ ، سُمِّي بذلك ؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها ، يُقالُ : سَحَتَهُ اللَّهُ ، وأسْحَتَهُ : أيْ : أهْلكهُ وأذهَبَهُ .

قال الزَّجَّاجُ : أصلُهُ مِنْ : سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته ، قال تعالى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 62 ] أيْ : يَسْتأصلهمْ ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ .

قال الله تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا } [ البقرة : 276 ] .

وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ : إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار .

وعن الفرَّاءِ : " السُّحْتُ " : شدَّةُ الجُوعِ ، يُقال : رجلٌ مَسْحُوتُ المعدةِ إذا كان أكُولاً ، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة .

وقد قُرِئ قوله تعالى : " فَيُسْحِتَكُمْ " بالوجهين : مهن سَحَتُّهُ ، وأسْحَتُّهُ .

وقال الفرزدقُ : [ الطويل ]

وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ{[11788]}

وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزةُ{[11789]} : " السُّحْت " بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن علي ، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ{[11790]} ، فالضمتانِ : اسمٌ للشيء المسحُوتِ ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً .

وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ ، وهُوَ ضعيفٌ .

والمرادُ بالسُّحْتِ : الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ{[11791]} ، ومَهْرُ البَغِيّ{[11792]} ، وعَسِيبُ الفَحْلِ{[11793]} ، وكَسْبُ الحجامِ{[11794]} ، وثَمنُ الكَلْبِ{[11795]} ، وثمنُ الخمرِ{[11796]} ، وثمنُ المَيْتَةِ{[11797]} ، وحُلوانُ الكَاهِنِ{[11798]} ، والاستعجالُ في المعصية{[11799]} ، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ ، وزاد بعضهُم ، ونقص بعضهم .

وقال الأخْفَش{[11800]} : السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ .

فصل

قال الحسنُ : كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ ، فَيُريها إيَّاهُ ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ ، فَيُسْمعُ مِنْه ، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ ، فَيَسْمَعُ الكذبَ ، ويأكُلُ الرشْوَةَ{[11801]} .

وقال أيضاً : إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً ، أو يُبْطل عنك حقاً ، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ .

وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً ، فأهدي له فَقَبِلَ ، فهو سُحْتٌ .

فقيل له : يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ ، فقال : الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ{[11802]} ؛ قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] .

وقال بَعْضُهُم{[11803]} : كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه من اليَهُوديَّة ، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم .

وقيل : سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] .

وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ{[11804]} . وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال : " كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به " قالُوا : يا رسولَ الله ، ومَا السُّحْتُ ؟ قال : " الرشوةُ في الحُكْمِ " {[11805]} .

وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أيْضَاً أنَّهُ قال : السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً ، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا{[11806]} .

وقال بعضُ العلماءِ{[11807]} : من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له ، فلا يَقْضِيهَا له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها . انتهى .

وقال أبُو حَنيفَةَ [ - رضي الله عنه - ] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك .

قال القرطُبي{[11808]} : وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله ؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ .

قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .

خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم ، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ :

الأولُ : أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ ، ثُم اختلف هؤلاءِ .

فقال ابنُ عباسٍ ، والحسنُ ، والزهريُّ - رضي الله عنهم - : إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ{[11809]} ، وقيل : في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم ، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً{[11810]} .

وقيل : هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم ، فإن شاء حكم بينهم ، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم .

والقول الثاني : أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار ، ثم اختلفُوا : فمنهم من قال : إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ{[11811]} منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة ، وعطاء ، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ ، وأبِي مُسْلِمٍ{[11812]} .

وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ ، ومنهم مَنْ قال : إنه منسوخٌ بقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] وهو قولُ ابن عباسٍ ، والحسنِ ، ومجاهد ، وعكرِمَة{[11813]} [ رضي الله عنهم ] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه ، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم .

فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم ، بل يتخيَّرُ في ذلك .

قال ابنُ عباس{[11814]} - رضي الله عنهما - : لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ : قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } [ المائدة : 2 ] نسخَهَا قوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] .

وقوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخها قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ .

ثُمَّ قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم ، وصاروا أعداءً لَهُ ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له .

ثُمَّ قال تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ } أيْ بالعَدْلِ : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أيْ : العادِلينَ .


[11788]:تقدم.
[11789]:ينظر: السبعة 243، والحجة 3/221، وحجة القراءات 225، وإعراب القراءات 1/145، والعنوان 87، وشرح شعلة 349، وإتحاف 1/535 والشواذ 39. ينظر: المحرر الوجيز 2/193، والبحر المحيط 3/501، والدر المصون 2/27.
[11790]:ينظر: البحر المحيط 3/501، والدر المصون 2/527.
[11791]:أخرجه الطبري في تفسيره(4/579-580) عن ابن مسعود ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/502) عن ابن مسعود وزاد نسبته لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن مسعود. وأخرجه الطبري (4/581) وعبد بن حميد وابن مردويه كما في "الدر المنثور" (2/502) عن ابن عمر مرفوعا بلفظ وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم.
[11792]:أخرجه الطبري (4/581) عن ابن هريرة موقوفا وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/503) وزاد نسبته للفريابي بلفظ: من السحت مهر الزانية...وأخرجه الطبري (4/581) عن عبد الله بن هبيرة قال: من السحت ثلاثة: مهر البغي. وأخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة كما في "الدر المنثور"(2/503) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ست خصال من السحت: رشوة الإمام وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/502) عن علي وعزاه لأبي الشيخ بلفظ: أبواب السحت ثمانية: رأس السحت رشوة الحاكم وكسب البغي وعسب الفحل وثمن الميتة وثمن الخمر وثمن الكلب وكسب الحجام وأجر الكاهن.
[11793]:ينظر: المصدر السابق.
[11794]:ينظر: المصدر السابق.
[11795]:ينظر: المصدر السابق.
[11796]:ينظر: المصدر السابق.
[11797]:ينظر: المصدر السابق.
[11798]:ينظر: المصدر السابق.
[11799]:ينظر: المصدر السابق.
[11800]:ينظر: تفسير البغوي 2/ 39.
[11801]:ينظر: تفسير الفخر الرازي (11/185).
[11802]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/579) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/502) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في "شعب الإيمان".
[11803]:ينظر: الفخر الرازي 11/185.
[11804]:تقدم.
[11805]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/581) عن عبد الله بن عمر وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/502) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن مردويه.
[11806]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/579) وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في الدر المنثور" (28/502).
[11807]:ذكره القرطبي منسوبا لابن خويزمنداد. ينظر: تفسير القرطبي 6/119.
[11808]:ينظر: تفسير القرطبي 6/119.
[11809]:أخرجه الطبري (4/582) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/504) عن ابن شهاب وزاد نسبته لابن إسحاق.
[11810]:تقدم في سورة النساء.
[11811]:في أ: الحكم.
[11812]:ينظر: تفسير الرازي 11/186.
[11813]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/504) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس.
[11814]:تقدم في بداية السورة آية 2.