اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا ، ووجهُ اتِّصاله بما قبله ، أنَّه - تعالى - قال : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] ، إلى قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } [ المائدة : 88 ] ، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات ، بل في المُحرَّمَات ، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [ البقرة 219 ] ، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [ المائدة 3 ] .

وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان :

أحدهما : سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل ، أي : خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ{[12503]} .

الثاني : قال ابنُ الأعْرَابِي{[12504]} : تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ ، أي : تَغَيَّر رِيحُهَا .

فصل

قال القُرْطُبِي{[12505]} : تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة ، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا ، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] ، أي : في تِجَارَتِهِم ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس ، وقالُوا : لا حَاجَةَ لنا فِيمَا فِيهِ إثْمٌ كَبِيرٌ .

وقال بعضهم : نأخُذُ مَنْفعَتَهَا ونَتْرُكُ إثْمَهَا ، فنزلتْ { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] فتركَهَا بَعْضُهُمْ ، وقالوا لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة ، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة ، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم ، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد .

قوله تعالى : " رجسٌ " : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة ، فيقال : كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ ؟ فأجاب الزمخشريُّ{[12506]} بأنه على حَذْف مضافٍ ، أي : إنما شأنُ الخَمْرِ ، وكذا وكذا ، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في " فاجْتَنِبُوهُ " كما سيأتي ، وكذا قدَّره أبو البقاء ، فقال{[12507]} : " لأنَّ التقدير : إنما عَمَلُ هذه الأشياء " . قال أبو حيان{[12508]} بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ : ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف ؛ كقوله : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وهو كلامٌ حسن ، وأجاب أبو البقاء{[12509]} أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ " رِجْسٌ " خبراً عن " الخَمْر " ، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها ، قال شهاب الدين{[12510]} : وعلى هذا : فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر ، وحُذِفَ خبرُ ما قبله ؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه ؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] هذين التقديرين ، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً .

والرجسُ قال الراغب{[12511]} : " هو الشيْءُ القَذِرُ ، رجلٌ رِجْسٌ ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ " ، ثم قال : " وقيل : رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد ، يقال : بَعِيرٌ رَجَّاسٌ : شديدُ الهدير ، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ : شديدُ الرعْد " ، وقال الزجَّاج{[12512]} : هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ ، يقال : رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء ، وهو شدة صوت الرعد ؛ قال : [ الرجز ]

وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا{[12513]} *** . . .

وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ ، فجعل الرِّجْسَ : الشرَّ ، والرِّجْزَ : العذابَ ، والرِّكْسَ : العَذِرةَ والنَّتْنَ ، ثم قال : " والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ " ، فتحصَّلَ من هذا ؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ ، أو أنه في الأصل مصدرٌ .

وقوله تعالى : { مِن عَمَلِ الشَّيْطَان } في محلِّ رفعٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " رِجْس " .

وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً ؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ ؛ لأنه كَافِرٌ ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] والهاء في " فَاجْتَنِبُوهَ " تعودُ على الرِّجْس ، أي : فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها ، وقال أبو البقاء{[12514]} : " إنها تعود على الفِعْلِ " ، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها ، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً ، قال{[12515]} : " فإنْ قلتَ : إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله : فاجتنبُوهُ ؟ قلت : إلى المضافِ المحذوفِ ، أو تعاطيهمَا ، أو ما أشبه ذلك ، ولذلك قال : رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ " ، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ : أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً .


[12503]:في ب: فغيره.
[12504]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 12/66.
[12505]:ينظر: تفسير القرطبي 6/185.
[12506]:ينظر: الكشاف 1/675.
[12507]:ينظر: الإملاء 1/225.
[12508]:ينظر: البحر المحيط 4/17.
[12509]:ينظر: الإملاء 1/225.
[12510]:ينظر: الدر المصون 2/604.
[12511]:ينظر: المفردات 193.
[12512]:ينظر: معاني القرآن 2/224.
[12513]:البيت للعجاج ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/224، اللسان "رجس" الدر المصون 2/604. ورواية اللسان "الرجسا" بضم الراء وبتشديد الجيم مفتوحة.
[12514]:ينظر: الإملاء 1/225.
[12515]:ينظر: الكشاف 1/675.