سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ : أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين ، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ ، قالوا : يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر ؛ فنزلت هذه الآيةُ{[12517]} ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم ؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً ، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس ، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي ، فلا أضَيِّعُ ذلك .
قوله تعالى : { إِذَا مَا اتَّقَواْ } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة ، وهي : " لَيْسَ " وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأثَمُونَ ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ .
الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب ، ولذلك يُقَالُ : الطعم خلافُ الشُّرْب ، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات ، كقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }
[ البقرة : 249 ] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله : " فِيمَا طَعِمُوا " أي : شَرِبُوا الخَمْرَ ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ .
وقد تقُولُ العربُ : تطعّم حتى تطعم أي : ذُق حتى تَشْتَهِيَ ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً .
فإن قيل : إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُول التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن ، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ : بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان .
أحدهما : أنَّ هذا من باب التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك ؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو .
والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ .
واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه :
أحدها : قال الأكْثَرُونَ : الأوَّل : عَمَلُ الاتِّقَاء .
والثاني : دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه .
والثالث : اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه .
وثانيها : أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة .
والثاني : اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية .
والثالث : اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [ وهذا قول الأصَمِّ ]{[12518]} .
وثالثها : اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر ، ثُمَّ الصَّغَائر .
ورابعها : قال القفَّال{[12519]} - رحمه الله تعالى - : التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون : النَّسخ يدُلُّ على البداء ، فأوْجَبَ{[12520]} على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر ، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ .
والتقوى الثانية : الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ . والتقوى الثالثة : عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية ، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ .
وخامسها : أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ ، والتَّقْوى .
فإن قيل : لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى ؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُل ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان ، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح ، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ .
فالجوابُ : لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم ، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان .
ومثَالُهُ أنْ يُقال لك : " هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ " ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ ؛ فتقول : ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً ، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً ، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل .
قال ابن الخطيب{[12521]} : زَعَم بَعْضُ الجُهَّال : أنَّ [ اللَّه ]{[12522]} تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء ، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها ، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك{[12523]} المفاسِدِ ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة{[12524]} والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ ، قالوا : ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم ؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ : ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا ، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ ، فقال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ولكنه لم يَقُلْ ذلك ، بل قال : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ، إلى قوله تعالى : { إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي ، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّة ، وقولهم : إنَّ كَلِمَة " إذَا " للمُسْتَقبلِ ، فجوابه : ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رحمه الله - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ ، قال أبُو بكر - رضي الله عنه - : يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا ، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ ، وفَعَلُوا القُمَار ، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا{[12525]} ؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَات ، وعلى هذا التقدير ، فالحَلُّ قد ثَبَتَ في الزَّمانِ المُسْتقبَلِ عن وقْتِ نُزُولِ هذه الآيَة ، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ .
قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } أي : أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط ، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.