اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ : أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين ، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ ، قالوا : يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر ؛ فنزلت هذه الآيةُ{[12517]} ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم ؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً ، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس ، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي ، فلا أضَيِّعُ ذلك .

قوله تعالى : { إِذَا مَا اتَّقَواْ } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة ، وهي : " لَيْسَ " وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأثَمُونَ ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ .

فصل

الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب ، ولذلك يُقَالُ : الطعم خلافُ الشُّرْب ، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات ، كقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }

[ البقرة : 249 ] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله : " فِيمَا طَعِمُوا " أي : شَرِبُوا الخَمْرَ ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ .

وقد تقُولُ العربُ : تطعّم حتى تطعم أي : ذُق حتى تَشْتَهِيَ ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً .

فإن قيل : إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُول التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن ، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ : بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان .

وللنَّاس في هذا قولان :

أحدهما : أنَّ هذا من باب التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك ؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو .

والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ .

واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه :

أحدها : قال الأكْثَرُونَ : الأوَّل : عَمَلُ الاتِّقَاء .

والثاني : دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه .

والثالث : اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه .

وثانيها : أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة .

والثاني : اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية .

والثالث : اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [ وهذا قول الأصَمِّ ]{[12518]} .

وثالثها : اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر ، ثُمَّ الصَّغَائر .

ورابعها : قال القفَّال{[12519]} - رحمه الله تعالى - : التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون : النَّسخ يدُلُّ على البداء ، فأوْجَبَ{[12520]} على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر ، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ .

والتقوى الثانية : الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ . والتقوى الثالثة : عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية ، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ .

وخامسها : أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ ، والتَّقْوى .

فإن قيل : لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى ؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُل ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان ، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح ، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ .

فالجوابُ : لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم ، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان .

ومثَالُهُ أنْ يُقال لك : " هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ " ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ ؛ فتقول : ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً ، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً ، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل .

فصل

قال ابن الخطيب{[12521]} : زَعَم بَعْضُ الجُهَّال : أنَّ [ اللَّه ]{[12522]} تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء ، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها ، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك{[12523]} المفاسِدِ ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة{[12524]} والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ ، قالوا : ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم ؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ : ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا ، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ ، فقال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ولكنه لم يَقُلْ ذلك ، بل قال : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ، إلى قوله تعالى : { إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي ، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّة ، وقولهم : إنَّ كَلِمَة " إذَا " للمُسْتَقبلِ ، فجوابه : ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رحمه الله - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ ، قال أبُو بكر - رضي الله عنه - : يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا ، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ ، وفَعَلُوا القُمَار ، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا{[12525]} ؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَات ، وعلى هذا التقدير ، فالحَلُّ قد ثَبَتَ في الزَّمانِ المُسْتقبَلِ عن وقْتِ نُزُولِ هذه الآيَة ، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ .

قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } أي : أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط ، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات .


[12517]:تقدم.
[12518]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 12/70.
[12519]:ينظر: المصدر السابق.
[12520]:في ب: فإذا وجب.
[12521]:ينظر: تفسير الرازي 12/70.
[12522]:سقط في أ.
[12523]:في ب: ذلك.
[12524]:في ب: الطاعة والتقوى.
[12525]:تقدم.