اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

اللام جواب قسم محذوفٍ ، أي : واللَّهِ ، ليَبْلُونَّكُمْ ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في " لَيبْلونَّكُمْ " مفتوحة لالتقاء الساكنين . قوله تعالى : " بِشَيءٍ " متعلِّقٌ ب " لَيَبلُونَّكُمْ " أي : لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ ؛ وقوله تعالى : " مِنَ الصَّيْدِ " : في محلِّ جرٍّ صفةً ل " شَيْء " فيتعلَّقُ بمحذوف ، و " مِن " الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ، ولا صيدَ الحِلِّ ، ولا صيد البْحرِ ، وقيل : إنها لبيان الجِنْسِ ، وقال مكيٌّ{[12526]} : " وقيل " مِنْ " لبيان الجنس ، فلما قال " بِشَيء " لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو : فبيَّن ، فقال : " مِنَ الصَّيْدِ " ؛ كما تقولُ : لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب " ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ثم قال{[12527]} : " وقيل : إنَّها للتبعيض " ، وكونُها للبيان فيه نظرٌ ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان ، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة ؛ كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، وبه قال ابن عطيَّة{[12528]} أيضاً ، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك ، فإنه قال{[12529]} : وهذا كما تقولُ : " لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيءٍ مِنَ الرِّزْقِ " ، وكما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] .

والمرادُ بالصَّيْد : المَصِيدُ ، لقوله تعالى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً ، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً .

قوله تعالى : " تَنَالُهُ " في محلِّ جر ؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل " شَيْء " ، وأجاز أبو البقاء{[12530]} أن يكون حالاً : إمَّا من الصَّيْد ، وإمَّا من " شَيْء " ، وإن كان نكرة ؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد ، ووجهُ الاستبعادِ : أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه ، وقرأ الجُمْهُور : " تَنَالُهُ " بالمنقوطةِ فوقُ ؛ لتأنيثِ الجمع ، وابنُ وثَّاب والنخعي{[12531]} بالمنقوطةِ من تحْتُ ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ .

فإن قيل : نزلتْ هذه الآيةُ عام " الحُدَيْبِيَةِ " ، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد ، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها ، فهمُّوا بأخْذِهَا ، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي : لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ .

وفائِدَةُ البَلْوَى : إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي ، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد ؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً ، وقيل : صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ .

وقوله تعالى : " تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ " يعني : الفَرْخَ والبَيْضَ ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ الصَّيْدِ ، و " رِمَاحُكُمْ " يعني : الكِبَار من الصَّيْدِ " لِيَعْلَمَ اللَّهُ " قاله الواحدي{[12532]} وغيره ، وقال مُقَاتِل بن حيان : كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم ، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي ، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ{[12533]} .

وقال بعضهم : هذا غَيْر جَائزٍ ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع .

ليَعْلَمَ اللَّهُ " قيل : اللامُ متعلِّقةٌ ب " لَيَبْلُونَّكُمْ " ، والمعنى : ليتميَّزَ أو ليظهر لكم ، وقد مضى تحقيقُه في البقرة ، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي ، وقرأ بعضهم{[12534]} : " لِيُعْلِمَ " بضم الياء وكسر اللام من " أعْلَمَ " ، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ ، والمفعول الثاني هو قوله : " مَنْ يَخَافُهُ " فَ " أعْلَمَ " منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى " عَرَفَ " وهذا مجازٌ ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ ، واخْتَلَفُوا في معناه ، فَقِيلَ ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ ، وقيل : لِيظهر المَعْلُوم ، وهو خَوْفُ الخَائِفِ ، وقيل : هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ : لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ ، وقِيلَ : ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ .

وقوله تعالى : " بالغَيْبِ " أي : يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه ، كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ الأنبياء : 49 ] أي : يَخَافُون ، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ ، وكقوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] ، وقيل : معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي : بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين { إِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] .

قوله تعالى : " بالغَيْبِ " في محلِّ نصب على الحال من فاعل " يَخَافُهُ " ، أي : يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [ الآية : 3 ] .

والمعنى : من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ ، كقوله تعالى : { مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } [ ق : 33 ] .

وجوَّز أبو البقاء{[12535]} ثلاثة أوجه :

أحدها : ما ذكرناه .

والثاني : أنه حالٌ مِنْ " مَنْ " في " مَنْ يَخَافُهُ " .

والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى " في " ، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ ، أي : يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله ، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف .

قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : اصْطَادَ بعد تَحْريمِهِ ، فله عذابٌ أليمٌ ، والمراد : عذابُ الآخرة ، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا .

قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً ، ويُنْتَزَع ثِيَابُه{[12536]} .

قال القَفَّالُ : وهذا غير جائزٍ ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } [ النور : 2 ] ، وقال تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } [ النمل : 21 ] .


[12526]:ينظر: المشكل 1/243.
[12527]:ينظر: الإملاء 1/225.
[12528]:ينظر: المحرر الوجيز 2/236.
[12529]:ينظر: معاني القرآن 2/227.
[12530]:ينظر: الإملاء 1/226.
[12531]:ينظر: المحرر الوجيز 2/236، والبحر المحيط 4/20، والدر المصون 2/605.
[12532]:ينظر: تفسير الرازي 12/71.
[12533]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/576) عن مقاتل بن حيان وعزاه لابن أبي حاتم.
[12534]:قرأ بها الزهري كما في المحرر الوجيز 2/236، والبحر المحيط 4/20، والدر المصون 2/606.
[12535]:ينظر: الإملاء 1/226.
[12536]:أخرجه أبو الشيخ من طريق أبي صالح عن ابن عباس كما في "الدر المنثور"(2/577).