اللام جواب قسم محذوفٍ ، أي : واللَّهِ ، ليَبْلُونَّكُمْ ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في " لَيبْلونَّكُمْ " مفتوحة لالتقاء الساكنين . قوله تعالى : " بِشَيءٍ " متعلِّقٌ ب " لَيَبلُونَّكُمْ " أي : لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ ؛ وقوله تعالى : " مِنَ الصَّيْدِ " : في محلِّ جرٍّ صفةً ل " شَيْء " فيتعلَّقُ بمحذوف ، و " مِن " الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ، ولا صيدَ الحِلِّ ، ولا صيد البْحرِ ، وقيل : إنها لبيان الجِنْسِ ، وقال مكيٌّ{[12526]} : " وقيل " مِنْ " لبيان الجنس ، فلما قال " بِشَيء " لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو : فبيَّن ، فقال : " مِنَ الصَّيْدِ " ؛ كما تقولُ : لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب " ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ثم قال{[12527]} : " وقيل : إنَّها للتبعيض " ، وكونُها للبيان فيه نظرٌ ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان ، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة ؛ كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، وبه قال ابن عطيَّة{[12528]} أيضاً ، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك ، فإنه قال{[12529]} : وهذا كما تقولُ : " لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيءٍ مِنَ الرِّزْقِ " ، وكما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] .
والمرادُ بالصَّيْد : المَصِيدُ ، لقوله تعالى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً ، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً .
قوله تعالى : " تَنَالُهُ " في محلِّ جر ؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل " شَيْء " ، وأجاز أبو البقاء{[12530]} أن يكون حالاً : إمَّا من الصَّيْد ، وإمَّا من " شَيْء " ، وإن كان نكرة ؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد ، ووجهُ الاستبعادِ : أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه ، وقرأ الجُمْهُور : " تَنَالُهُ " بالمنقوطةِ فوقُ ؛ لتأنيثِ الجمع ، وابنُ وثَّاب والنخعي{[12531]} بالمنقوطةِ من تحْتُ ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ .
فإن قيل : نزلتْ هذه الآيةُ عام " الحُدَيْبِيَةِ " ، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد ، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها ، فهمُّوا بأخْذِهَا ، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي : لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ .
وفائِدَةُ البَلْوَى : إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي ، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد ؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً ، وقيل : صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ .
وقوله تعالى : " تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ " يعني : الفَرْخَ والبَيْضَ ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ الصَّيْدِ ، و " رِمَاحُكُمْ " يعني : الكِبَار من الصَّيْدِ " لِيَعْلَمَ اللَّهُ " قاله الواحدي{[12532]} وغيره ، وقال مُقَاتِل بن حيان : كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم ، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي ، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ{[12533]} .
وقال بعضهم : هذا غَيْر جَائزٍ ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع .
ليَعْلَمَ اللَّهُ " قيل : اللامُ متعلِّقةٌ ب " لَيَبْلُونَّكُمْ " ، والمعنى : ليتميَّزَ أو ليظهر لكم ، وقد مضى تحقيقُه في البقرة ، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي ، وقرأ بعضهم{[12534]} : " لِيُعْلِمَ " بضم الياء وكسر اللام من " أعْلَمَ " ، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ ، والمفعول الثاني هو قوله : " مَنْ يَخَافُهُ " فَ " أعْلَمَ " منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى " عَرَفَ " وهذا مجازٌ ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ ، واخْتَلَفُوا في معناه ، فَقِيلَ ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ ، وقيل : لِيظهر المَعْلُوم ، وهو خَوْفُ الخَائِفِ ، وقيل : هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ : لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ ، وقِيلَ : ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ .
وقوله تعالى : " بالغَيْبِ " أي : يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه ، كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ الأنبياء : 49 ] أي : يَخَافُون ، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ ، وكقوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] ، وقيل : معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي : بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين { إِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] .
قوله تعالى : " بالغَيْبِ " في محلِّ نصب على الحال من فاعل " يَخَافُهُ " ، أي : يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [ الآية : 3 ] .
والمعنى : من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ ، كقوله تعالى : { مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } [ ق : 33 ] .
وجوَّز أبو البقاء{[12535]} ثلاثة أوجه :
والثاني : أنه حالٌ مِنْ " مَنْ " في " مَنْ يَخَافُهُ " .
والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى " في " ، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ ، أي : يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله ، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف .
قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : اصْطَادَ بعد تَحْريمِهِ ، فله عذابٌ أليمٌ ، والمراد : عذابُ الآخرة ، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا .
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً ، ويُنْتَزَع ثِيَابُه{[12536]} .
قال القَفَّالُ : وهذا غير جائزٍ ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } [ النور : 2 ] ، وقال تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } [ النمل : 21 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.