لما بين حِلَّ كُلِّ ما ذُبِح على اسْم اللَّه -تعالى- ذكر بعده تَحْرِيم ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه ، ويَدْخُل فيه المَيْتَة ، وما ذُبح على ذِكْر الأصْنَام .
قال عطاء : كُل مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عليه من طعامٍ أو شرابٍ ، فهو حرام ؛ لعُمُوم الآية{[15081]} :
وقال ابنُ عبَّاسٍ : الآية الكريمة في تَحْرِيم الميتات وما فِي مَعْناها{[15082]} ، ونُقِل عن عَطَاء الآية الكريمة ، وفي تَحْرِيم الذَّبَائح الَّتي كانُوا يَذْبحونها على اسْم الأصْنَام ، واخْتَلف العُلماء - رضي الله عنهم - في ذَبِيحَة المُسْلِم ، إذا لَمْ يُذْكَر اسم اللَّه علَيه .
فذهب قَوْمٌ إلى تَحْرِيمها سواءً ترك التَّسْمِيةَ عامداً أوْ نَاسِياً ، وهُوَ قَوْل ابن سيرين ، والشَّعْبِين وأحمد في رواية ، وطائفة من المُتَكَلِّمين لِظَاهر الآية الكريمة .
وذه قَوْم إلى تَحْلِيلها ، يُرْوَى ذلك عن ابْن عبَّاس{[15083]} ، وهُو قول مَالِك ، والشَّافِعي ، وأحْمَد في رِوَاية .
وذهب قوم إلى أنه إنْ ترك التَّسْمِية عامداً ، لم يحلّ ، وإن تركها سَهْواً ، أحلت ، وهُو قَوْل الثَّوْري ، وأصْحاب الرَّأي ، ومَذْهَب أحمد .
ومن أبَاحَهَا ، قال : المُرَاد من الآية الكريمة : الميتات ، وما ذُبِح على غَيْر اسْم اللَّه ؛ لقوله : " وإنه لفسق " والفسق في غَيْر ذِكْر اسْم اللَّه ؛ كما قال في آخر السُّورَة العَظِيمة : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } . . . إلى قوله { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله به } وأجمع المُسْلِمُون على أنَّه لا يُفَسَّق آكل ذَبيحَةِ المُسْلِم الذي ترك التَّسْمِية ، وأيضاً : وقوله - تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } وهذه المُنَاظَرَة إنَّما كانت في مَسْألة المَيْتَة على أنَّ المُشْركين قَالُوا للمسلمين : ما يَقْتله الصَّقْر والكَلْبُ تَأكُلُونَه ، وما يَقْتُله الله فلا تَأكُلُونَهُ ، وعن ابن عباسٍ : إنَّهم قالُوا : تأكلون ما تَقْتُلُونَه ، ولا تَأكُلُون ما يَقْتُله اللَّه - تعالى-{[15084]} ، وهذه المناظرات مَخْصُوصة بأكل المَيْتَة ، وقال تبارك وتعالى- : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وهذا مَخْصُوص بِمَا ذُبِح على اسْم النُّصُب ، يعني : لو رَضِيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتِي ذُبِحَ على اسْم الهديَّة للأوثان ، فقد رَضِيتُم بإلهيَّتِها فذلك يُوجِب الشِّرْك .
قال الشَّافعي : فأوَّل الآية الكريمة ، وإن كان عامَّا بحسب الصِّيغة ، إلاَّ أن آخِرَها لمَّا حَصَلتْ فيه هذه القُيُود الثلاثة ، علمنا أن المُرَاد من العموم : الخصوص ، وعن عائشة : رضي الله عنها- قالوا : يا رسول الله إن هُنَا أقْوَاماً حَدِيثٌ عَهْدهم بِشِرْكٍ يأتُونَنَا باللَّحْم ، لا يُدْرَى يَذْكُرون اسْم اللَّه عليها أمْ لا ، قال : " اذْكُروا أنْتم اسْم اللَّه ، وكلوا " ولو كانت التَّسْمِية شَرْطاً للإبَاحَة ، كان الشكُّ في وُجودها مَانِعاً كالشكّ في أصْل الذَّبْح .
قوله : " وإنَّه لَفِسْقٌ " هذه الجُمْلَة فيها أرْبَعَة أوْجُه :
أحدها : أنَّها مُسْتأنَفة ، قالوا : ولا يَجُوز أن تكُون مَنْسُوقة على ما قَبْلَها ؛ لأن الأولَى طلبيَّة ، وهي خَبَرِيَّة ، وتُسَمَّى هذه الواوُ ، واو الاسْتِئْنَافِ .
والثاني : أنَّها مَنْسُوقة على ما قَبْلَها ، ولا يُبَالَى بِتَخَالُفِهما ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْه ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك ، [ وقد أوْرَدْتُ من ذَلِك شَواهِد صالِحَة من شِعْر وغيره ]{[15085]} .
الثالث : أنَّها حاليَّة ، أي : " لا تَأكُلوه ، والحالُ : أنَّه فِسْق " وقد تبجَّح الإمام{[15086]} الرَّازي بهذا الوَجْه على الحَنَفيَّة ، حيث قَلَب دَليلَهُم عليهم بهذا الوَجْه ، وذلك أنَّهم يَمْنعُون من أكْل مَتْروك التَّسْمِيَة ، والشَّافعيَّة لا يَمْنعون منه استدل عليهم الحَنَفِيَّة بِظَاهِر هذه الآية .
فقال الرَّازي : هذه الجُملَة حاليَّة ، ولا يَجُوز أن تَكُون مَعْطُوفة لِتخَالُفِهَمَا طَلَباً وخبراً ، فتعيَّن أن تكون حاليَّة ، وإذا كانت حاليَّة ، كان المعنى : " لا تَكُلُوه حال كَوْنهِ مُفَسَّقاً " ، ثم هذا الفِسْق مُجْمَل قد فَسَّره اللَّه تعالى في مَوْضِع آخر ، فقال : " أو فِسْقاً أهِلَّ لِغَير اللَّه به " يعني : أنه إذَا ذُكر على الذَّبيحة غَيْر اسم اللَّه ، فإنَّه لا يَجُوز أكْلُها ؛ لأنَّه فِسقٌ .
ونحن نقُول به ، ولا يَلْزَم من ذَلِك أنَّه إذا لم يُذْكر اسْم اللَّه ، ولا اسْم غيره ، أن تكون حَرَاماً ؛ لأنه لَيْس بالتَّفْسِير الذي ذَكْرنَاه ، والنِّزاع فيه مُحَال من وُجُوه :
منها : أنّنا لا نُسَلِّم امْتِناع عَطْفِ الخَبَر على الطَّلَب ، والعَكْس ، كما قدَّمتُه عن سِيبوَيْه ، وإن سُلِّم ، فالواو للاسْتِئْنَاف ، كما تقدم ، وما بَعْدَها مُسْتأنفُ ، وإن سُلِّم أيضاً ، فلا نسلّم أن " فِسْقاً " في الآية الأخرى مُبَيِّن للقِسق في هذه الآية ، فإن هذا لَيْس من بابِ المُجْمَل والمُبَيَّن{[15087]} ؛ لأن له شُرُوطاً لَيْسَت مَوجُودَة هُنَا . وهذا الذي قاله مُشْتَمِلٌ من كلام الزَّمَخْشَرِي : فإنه قال{[15088]} :
فإن قُلْت : قد ذَهَبَ جماعة من المُجْتَهِدين إلى جَوازِ أكْل ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه بِنِسْيَان أوْ عَمْد .
قلت : قد تأوَّله هؤلاء بالمَيْتَة ، وبما ذُكِر غَيْر اسْم اللَّه عليه ؛ كقوله : " أو فسْقاً أهلِّ لِغَيْر اللَّه به " فهذا أصْل ما ذكره ابن الخَطِيب وتبجَّح به والضَّمير في " أنَّه " يُحْتَمل أن يعُود على الأكْل المَدْلُول عليه ب " لا تأكُلُوا " ، وأن يعُود على الموصُول ، وفيه حنئيذٍ تأويلان :
أن تَجْعَل الموصُول نَفْس الفِسْق مبالغة .
أو على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : " وإنَّ أكله لَفِسْق " أو على الذكْر المَفْهُوم من قوله : " ذكر " قال أبوُ حيَّان{[15089]} : " والضَّمِير في " إنَّه " : يعُود على الأكْل ، قاله الزَّمَخْشَري ، واقْتَصَر عليه " .
قال شهاب الدِّين{[15090]} - رحمه الله- : لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذَكَر : أنَّه يجوز أن يَعُود على المَوصُول ، وذكر التَّأويلين المُتقدِّمين ، فقال : " الضَّمير راجع على مَصْدر الفِعْل الدَّاخل عليه حَرْف النَّهْي ، بمعنى : وإنَّ الأكل منه لَفِسْق ، أو على الموصُول على أنَّ أكْلَه لِفِسْق ، أو جعل ما لَمْ يُذكَر اسْمُ اللَّه عليه في نفس فسْقاً " .
قوله : " وإنّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليَائِهم " من المُشْركين لِيُخَاصِموا مُحمَّداً وأصحابه في أكْل المَيْتَة .
وقال عِكْرِمة : المراد بالشَّيَاطِين : مَرَدة المجُوس ، ليُوحون إلى أوْلِيَائِهم من مُشْرِكي قُرَيْش ، وذلك لأنَّه لما نزل تَحْريم المَيْتَة ، سَمِعه المجُوسُ من أهْل فَارِس ، فكتَبُوا إلى قُرَيش - وكانت بَيْنَهُم مُكَاتبة- أنَّ محمَّداً وأصاحابه يَزْعُمون أنَّهم يَتْبَعُون أمْر اللَّه -تعالى- ثم يَزعُمُون أن ما يَذْبَحُونه حلالاً ، وما يَذْبَحُه اللَّه حرامٌ فوقع في نَفْس ناسٍ من المُسْلِمين من ذلك ، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الكَرِيمة .
قوله : " لِيُجَادِلُوكُم " متعلِّق ب " يُوحُون " أي : " يُوحُون لأجْل مُجَادَلَتِكم " ، وأصْل " يُوحُون " يُوحِيُون ؛ فأعِلّ .
قوله : " وإن أطَعْتُمُوهم " قيل : إنَّ التَّوْطِئة للقسم ، فلذلك أجيب القسم المُقَدَّر بقوله : " إنكم لمُشْرِكُون " وحذف جواب الشَّرْط ؛ لسدّ جواب القسم مسدّه .
وجاز الحذف ؛ لأن فعل الشرط ماض .
وقال أبو البقاء{[15091]} : حذف الفاء من جواب الشرط ، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ، وهو ههنا كذلك ، وهو قوله : " وإنْ أطَعْتُمُوهُم " .
قال شهاب الدِّين{[15092]} : كأنه زعم : أنَّ جواب الشَّرْط هو الجُمْلَة من قوه : " إنَّكُم لَمُشْرِكُون " والأصل : " فإنكُم " بالفاء ؛ لأنَّها جُمْلَة اسميَّة ، ثم حُذِفَت الفاء ؛ لكون فِعْل الشَّرْط بِلَفْظِ المُضِيِّ ، وهذا لَيْس بِشَيء ؛ فإن القَسَم مُقدَّر قَبْل الشَّرْط ويدُل على ذلك حَذْف اللاَّم المُوَطِّئَة قبل " إن " الشَّرْطية ، ولَيْس فِعْل الشَّرْط مَاضِياً ؛ كقوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] فَهَهُنَا لا يُمْكنه أن يقُول : إن الفاء مَحذُوفة ؛ لأن فِعْل الشَّرْط مُضارعٌ ، وكأن أبا البقاء - والله أعلم- أخذ هذا من الحُوفيِّ ؛ فإني رَأيْتُه فيه كما ذَكَرَهُ أبُو البقاء ، ورَدَّه أبُو حيَّان بنحو ما تقدم .
والمَعْنَى : وإنْ أطعتُمُوهُم في استِحْلال المَيْتَة ، إنكم لَمُشْرِكُون ، وإنَّما سُمِّي مُشْرِكاً ؛ لأنه أثْبَت حَاكِماً سِوَى اللَّه ، وهذا هو الشِّرك .
وقال الزَّجَّاج : وفيه دَلِيل على أنَّ كُلَّ مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرَّم اللَّه ، وحرَّم ما أحَلَّ اللَّه ، فهو مُشْرِك .