لما ذكر تعالى في الآية الأولَى ؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله -تعالى- ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي ، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً ؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك ، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه ، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا ، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً .
قوله : " أو مَنْ كَانَ " تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ ، وهو رَأي الجُمْهُور ، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر ، و " مَنْ " في محلِّ رفع بالابتداء ، و " كمَنْ " خَبَرْهُ ، وهي مَوْصُولة ، و " يمشي " في محلِّ نَصْب صِفَة ل " نُوراً " .
قال قتادة : أراد ب " النور " : كَتَاب اللَّه -تعالى- بيّنة مع المُؤمن ، بها يعمل ، وبها يَأخُذ ، وإليها يَنْتَهِي{[15093]} ، و " مَثَلُه " مُبْتَدأ و " فِي الظُّلُمات " : خَبَرُه ، والجُمْلَةُ صِلَةُ " مَنْ " و " من " مجرورة بالكاف ، والكاف ومجرورها كما تقدم في محل رفع خبرا ل " من " الأولى و " ليس بِخَارج " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول ، أي : " مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِمياً فيها " .
وقال أبُو البقاء{[15094]} : " لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في " منْها " ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في " مَثَلُه " للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر " .
وجعل مَكِّي{[15095]} الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في " الظُّلُمات " وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف : " أفَمَنْ كَانَ " بالفَاءِ بدل الواو .
اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن :
أحدهما : أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا .
قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما- : " جَعَلْنَا لَهُ نُوراً " يريد : حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب ، " كمن مَثَلُه في الظُّلُماتِ " يريد : أبا جَهْل بْن هِشَام ، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفَرْثٍ ، فأخْبر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد ، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس ، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه ، ويَقُول : أبا يَعْلى ، أما ترى ما جَاءَ به ، سَفَّه عُقُولنا ، وسَبَّ آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حَمْزَة : ومن أسْفَه مِنْكُم ، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه ؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله ، فأنْزَل اللَّه الآية{[15096]} .
وقال الضَّحَّاك : نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب ، وأبي جَهْل{[15097]} .
وقال عِكْرِمَة ، والكلبي : نزلت في عمَّار بن يَاسِر ، وأبي جَهْل{[15098]} .
وقال مُقَاتِل : نزلت في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأبِي جَهْل ، وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف ، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا : مِنَّا نبيٌّ يُوحى إلَيْه ، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه ، فنزلت الآية الكريمة{[15099]} .
القول الثاني : أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين ، وهذا هو الحَقُّ ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم ؛ وأيضاً : فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة ، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآية الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل .
قوله : " كَذَلك زُيِّن " نعتُ لِمَصْدَر ، فقدَّره بَعْضُهم : " زُيِّن للكَافِرين تَزْييناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين " وقدَّره آخرون : " زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها " والفاعل المَحْذُوف من " زُيِّن " المنُوبُ عنه هو اللَّه -تعالى- ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان ، وقد صرَّح بكُلٍّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ " زيَّن " ، قال -تعالى- { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ، وقال - تعالى- { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ العنكبوت : 38 ] و " مَا كَانُوا يَعْمَلُون " : هو القَائِم مقام الفَاعِل ، و " ما " يَجُوز أن تكون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ ، دون الثاني عند الجُمْهورِ ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ .
وقال الزجاجُ{[15100]} : " موضعُ الكافِ رفعٌ ، والمعنى : مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك ، زُيِّن للكافرين أعمالهم " .
دلّت هذه الآية الكريمةُ على أن الكُفْر ، والإيمانَ من الله تعالى ؛ لأن قوله " فَأحيَيْنَاهُ " وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } كنايةٌ عن المعرفةِ ، والهدى ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله -تبارك وتعالى- والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه ، وهو دليلُ الداعي المتقدم .
وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل ، والكفر لنفسه ؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً ، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ ، ولم يحصل له ذلك ، وإنما حصل ضدُّه ، وهو : الكُفْرُ ، والجَهْلُ ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره .
فإن قيل : إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل ، أنَّه عِلْمٌ .
فالجواب : أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر ، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كما في المسبوق كذلك إلى غَيْرِ نهاية ، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده ، وهو المطلوبُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.