اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (122)

لما ذكر تعالى في الآية الأولَى ؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله -تعالى- ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي ، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً ؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك ، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه ، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا ، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً .

قوله : " أو مَنْ كَانَ " تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ ، وهو رَأي الجُمْهُور ، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر ، و " مَنْ " في محلِّ رفع بالابتداء ، و " كمَنْ " خَبَرْهُ ، وهي مَوْصُولة ، و " يمشي " في محلِّ نَصْب صِفَة ل " نُوراً " .

قال قتادة : أراد ب " النور " : كَتَاب اللَّه -تعالى- بيّنة مع المُؤمن ، بها يعمل ، وبها يَأخُذ ، وإليها يَنْتَهِي{[15093]} ، و " مَثَلُه " مُبْتَدأ و " فِي الظُّلُمات " : خَبَرُه ، والجُمْلَةُ صِلَةُ " مَنْ " و " من " مجرورة بالكاف ، والكاف ومجرورها كما تقدم في محل رفع خبرا ل " من " الأولى و " ليس بِخَارج " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول ، أي : " مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِمياً فيها " .

وقال أبُو البقاء{[15094]} : " لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في " منْها " ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في " مَثَلُه " للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر " .

وجعل مَكِّي{[15095]} الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في " الظُّلُمات " وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف : " أفَمَنْ كَانَ " بالفَاءِ بدل الواو .

فصل في المراد بالآية

اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن :

أحدهما : أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا .

قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما- : " جَعَلْنَا لَهُ نُوراً " يريد : حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب ، " كمن مَثَلُه في الظُّلُماتِ " يريد : أبا جَهْل بْن هِشَام ، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفَرْثٍ ، فأخْبر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد ، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس ، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه ، ويَقُول : أبا يَعْلى ، أما ترى ما جَاءَ به ، سَفَّه عُقُولنا ، وسَبَّ آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حَمْزَة : ومن أسْفَه مِنْكُم ، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه ؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله ، فأنْزَل اللَّه الآية{[15096]} .

وقال الضَّحَّاك : نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب ، وأبي جَهْل{[15097]} .

وقال عِكْرِمَة ، والكلبي : نزلت في عمَّار بن يَاسِر ، وأبي جَهْل{[15098]} .

وقال مُقَاتِل : نزلت في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأبِي جَهْل ، وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف ، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا : مِنَّا نبيٌّ يُوحى إلَيْه ، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه ، فنزلت الآية الكريمة{[15099]} .

القول الثاني : أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين ، وهذا هو الحَقُّ ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم ؛ وأيضاً : فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة ، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآية الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل .

قوله : " كَذَلك زُيِّن " نعتُ لِمَصْدَر ، فقدَّره بَعْضُهم : " زُيِّن للكَافِرين تَزْييناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين " وقدَّره آخرون : " زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها " والفاعل المَحْذُوف من " زُيِّن " المنُوبُ عنه هو اللَّه -تعالى- ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان ، وقد صرَّح بكُلٍّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ " زيَّن " ، قال -تعالى- { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ، وقال - تعالى- { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ العنكبوت : 38 ] و " مَا كَانُوا يَعْمَلُون " : هو القَائِم مقام الفَاعِل ، و " ما " يَجُوز أن تكون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ ، دون الثاني عند الجُمْهورِ ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ .

وقال الزجاجُ{[15100]} : " موضعُ الكافِ رفعٌ ، والمعنى : مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك ، زُيِّن للكافرين أعمالهم " .

فصل في بيان خلق الأفعال

دلّت هذه الآية الكريمةُ على أن الكُفْر ، والإيمانَ من الله تعالى ؛ لأن قوله " فَأحيَيْنَاهُ " وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } كنايةٌ عن المعرفةِ ، والهدى ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله -تبارك وتعالى- والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه ، وهو دليلُ الداعي المتقدم .

وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل ، والكفر لنفسه ؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً ، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ ، ولم يحصل له ذلك ، وإنما حصل ضدُّه ، وهو : الكُفْرُ ، والجَهْلُ ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره .

فإن قيل : إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل ، أنَّه عِلْمٌ .

فالجواب : أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر ، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كما في المسبوق كذلك إلى غَيْرِ نهاية ، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده ، وهو المطلوبُ .


[15093]:ينظر: الإملاء 1/260.
[15094]:ينظر: المشكل 1/278.
[15095]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (13/141).
[15096]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/332) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/81) وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وينظر: تفسير الرازي (13/141). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/81) عن زيد بن أسلم وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[15097]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/332) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/81) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[15098]:انظر تفسير الرازي (13/141).
[15099]:ينظر: معاني القرآن 2/317.
[15100]:ينظر: الكشاف 2/63.