قال المفسِّرُونَ{[15119]} : إنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال : والله لو كانت النُّبُوّة حقاً لكنتُ أوْلَى بها مِنْك ؛ لأني أكبرُ مِنْك سِنَّا ، وأكثرُ مِنْك مَالاً ، وولداً ؛ فنزلت الآية الكريمةُ .
وقال الضحاكُ : أرَادَ كُلُّ واحدٍ منهم أنْ يخصَّ بالوحِي ، والرسالةِ ؛ كما أخبر تعالى عنهم : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }{[15120]} [ المدثر : 52 ] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تَفْسِيرها يدُلُّ على ذلك أيضاً ، وهذا يدلُّ على أنَّ جماعةً منهم كانوا يَقُولُونَ هذا الكلام .
وقال مُقَاتِلٌ : نزلَتْ في أبِي جَهْلٍ ؛ وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنَا بنُو عَبْدِ منافٍ في الشرف ؛ حَتَّى إذَا صِرْنا كَفَرسَيْ رهانٍ ، قالوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إليه ، والله لَنْ نُؤمِنَ به ، ولن نَتّبعَهُ أبَداً ؛ إلاَّ أن يَأتِينَا وحي ، كما يَأتيه ؛ فأنْزَل اللَّهُ -تبارك وتعالى- الآية{[15121]} .
وقوله : { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله } .
أشهرهما : أن القومَ أرادُوا أنْ تحصُلَ لهم النبوةُ ، والرِّسَالَةُ ، كما حَصَلَتْ لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأنْ يكُونُوا مَتْبُوعِينَ لا تَابِعِينَ .
والقول الثاني : نُقِل عن الحسن ، وابن عبَّاس أن المعنى : وإذا جاءتُهْم آيةٌ من القرآنِ تأمُرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : " لَنْ نُؤمِنَ لك حتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأرْض يَنْبُوعاً . . . " إلى قوله : { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ- إلى أبي جَهْلٍ ، وإلى فلانٍ وفُلانٍ ، كتاباً على حدَةٍ{[15122]} ؛ وعلى هذا فالتقديرُ ما طلبوا النبوة وإنَّما طلَبُوا انْ يَأتِيهُمْ بآياتٍ قَاهِرَةٍ مثل مُعْجزاتِ الأنْبياءِ المتقدمين ؛ كي تدل على صِحًّة نبوّة محمدٍ- عليه الصَّلاة والسَّلام- .
قال المحقِّقُون{[15123]} : والأوَّلُ أقْوَى لأنَّ قولهُ تبارك وتعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } لا يَلِيقُ إلاَّ بالقولِ الأوَّلِ .
وقوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فيه تنبيهٌ على أنَّ أقلَّ ما لا بُدَّ مِنْهُ في حُصُولِ النُّبُوةِ ، والرسالةِ ؛ البراءةُ عن المكْر ، والخَدِيعَةِ ، والغَدْر ، والغِلِّ ، والحَسَدِ وقولهم { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله } عينُ المكرِ ، والغل والحسد ؛ فكيف تحصلُ النبوةُ ، والرسالةُ مع هذه الصفات الذَّمِيمة ؟ .
قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
أحدهما : أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة ، وصارت مَفْعُولاً بها على السِّعَةِ ، وليس العامِلُ " أعْلَمُ " هذه ؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به .
قال أبُو عَلِيّ : " لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في " حَيْثُ " : " أعلم " هذه الظاهرة ، ولا يجوز أن تكون " حيث " ظرفا ؛ لأنه يصير التقدير : " الله أعلم في هذا الموضع " ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع ، وأوقاتٍ ؛ لأن علمه لا يختلف باختلاف الأمكنة ، والأزمنة ، وإذا كان كذلك ، كان العامل في " حيث " فِعلاً يدُلُّ عليه " أعْلَمُ " و " حَيْثُ " لا يكونُ ظَرْفاً ، بل يكونُ اسْماً ، وانتصابُه على المفعول به على الاتِّساعِ ، ومثلُ ذلك في انتصابِ " حَيْثُ " على المفعولِ به اتساعاً قولُ الشَّمَّاخِ : [ الطويل ]
وحَلّأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ *** أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ{[15124]}
ف " حَيْثُ " مفعولةٌ ، لأنه ليس يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئاً حيث تكون النواجِز ، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع " . وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول .
فقال الحوفِيُّ : " لَيْسَتْ ظَرْفاً ؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانٍ آخر ، وإذَا لم تكن ظَرْفاً ، كان مَفْعُلاً بها ؛ على السِّعَةِ ، وإذا كانت مَفْعُولاً ، لم يعملْ فيها " أعْلَمُ " ؛ لأن " أعْلَمُ " لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ " وعبارةُ ابْنِ عطيَّة ، وأبِي البَقَاءِ{[15125]} نحو مِنْ هذا .
وأخذ التبرِيزيُّ كلام الفارسيِّ [ فنقله ]{[15126]} ، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ .
والثاني : أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطري المجاز ، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختاراً له على ما تقدم .
فقال : " وما أجازُوه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة- تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو ؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ " حَيْثُ " مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ ، وشذَّ إضافةُ " لَدى " إليها ، وجرِّها " بالياء " ، وب " في " ، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفاً ، وإذا كان كذلك ، امتنع نصبُ " حَيْثُ " على المفعُولِ به ، لا على السِّعَة ، ولا على غَيْرها .
والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ " حَيْثُ " على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ ، على أنْ يُضَمَّنَ " أعْلَمُ " مَعْنَى ما تيعدّى إلى الظرفِ ، فيكون التقديرُ : " اللَّهُ أنْفَذُ عِلْماً حَيْثُ يجعلُ رِسَالاته " أي : " هو نافِذُ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا " .
قال شهابُ الدِّين{[15127]} : قد ترك ما قاله الجمهورُ ، وتتابعوا عليه ، وتأوَّل شَيْئاً هو أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ ، وذلك أنه يلزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَة ، فيكونُ في مكانٍ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال ، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا ؟ وقوله : " نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها " هذا معارضٌ- أيضاً- بأنهم نصُّوا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجرورةً ب " لَدَى " أو " إلى " أو " فِي " فمنه : أنها جاءت اسماً ل " إنَّ " في قوله الشاعر : [ الخفيف ]
إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجي *** هِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان{[15128]}
ف " حيثُ " اسمُ " إن " ، و " حِمًى " خبرُها ، أيْ : إنَّ مكاناً استقرَّ من أنت راعيه مكانٌ يحمى فيه العزُّ والأمان ، ومِنْ مَجِيئها مجروةً ب " إلى " قول القائل في ذلك : [ الطويل ]
فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتاً كَثِيرةً *** إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ{[15129]}
وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه ، بأنه لم يُرِدْ بقوله " أنْفَذُ عِلْماً " التفضيل ، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجردَ الوصْفِ ؛ ويدلُّ على ذلك قوله : أي هُوَ نَافِذُ العلم في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته ، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك ، فيقول : ولَيس المراد التفضيل .
وروي " حَيْثَ يَجْعَلُ " بفتح الثاء ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنها فتحةُ بناءٍ ؛ طَرْداً للباب .
والثاني : أنها فتحةُ إعرابٍ ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس ، حكاها الكسَائِيُ .
[ وفي " حَيْثُ " سِتُّ لُغَاتِ : حَيْثُ : بالياء بتَثْلِيث الثاءِ ، وحَوْثُ : بالواو ، مع تَثْلِيث الثاء ]{[15130]} .
وقرأ{[15131]} ابنُ كثير ، وحَفْصٌ عن عَاصم " رسالَتَه " بالإفراد ، والباقون : " رِسَالاتِهِ " بالجمع ، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة{[15132]} ؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قر هُناك بالجمْع- وهوحَفْصٌ- قرأ هنا بالإفْرادِ ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ- وهو أبو عَمْرو ، والأخوانِ ، وأبُو بَكْرٍ ، عَنْ عاصم- قرأ هنا بالجمع ، ومعنى الكلام : " اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ " .
قوله : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارُ عِندَ الله } قِيلَ : المرادُ بالصِّغَارِ ذل وهوان يحصلُ لهم في الآخرة .
وقيل : الصغارُ في الدنيا ، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة .
قوله : " عِنْدَ اللّهِ " يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ ب " يُصِيب " ويجوز أن ينتصبَ ب " صَغَار " ؛ لأنه مصدرٌ ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً ل " صغار " ؛ فيتعلق بمحذوفٍ ، وقدَّره الزجاجُ{[15133]} فقال : ثَابِتٌ عند الله تعالى " .
والصِّغارُ : الذلُّ والهوان ، يقالُ منه : صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً ، فهو صاغرٌ ،
وأما ضدّ الكِبر فيقال منه : صَغر يصغَر صِغراً فهو صغِيرٌ ، هذا قولُ اللَّيْثِ ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ ، والفعلِ .
وقال غيره : إنه يُقالُ : صَغُر ، وصغَر من الذل .
والعِنْديَّةُ هنا : مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك ؛ كقولك : ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي ، أيْ : في حكمه ، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب ؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا .
و " بما كانوا " الباء للسببيّة أي : إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم ، وكَيْدِهم ، وحَسَدِهم و " مَا " مصدرية ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي .