لما بيَّن-تبارك وتعالى- فَسَادَ قَوْل الكُفَّار : " إنَّ الله حرَّم علينا كَذَا وكَذَا " أردَفَه بِبيَان الأشْيَاءِ التي حرَّمها عليهم .
قال الزَّمَخْشَرِي{[15523]} : " تعال " من الخَاصِّ الذي صار عَامّاً ، وأصله أن يقوله من كان في مكانٍ عال لِمَن هو أسْفل منه ، ثم كَثُر وَعمَّ .
قال القرطبي{[15524]} : " وقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } أي : تقدَّمُوا واقْرَءُوا حقّاً يقيناً ؛ كما أوْحَى إليَّ رَبِّي ، لا ظنّاً ولا كَذِباً كما زعمتم ، ثم بيَّن بعد ذلك فقال : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ، يقال للرَّجُل : تعال : أي : تقدّم : ويقال للمرأة : تعالي ، ويقال للاثْنَيْن والاثْنَيْن : تَعَالَيَا ، ولجماعة الرِّجَال : تعالَوْا ، ولجماعة النِّسَاء : تَعَالَيْن ؛ قال الله -تبارك وتعالى- : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 28 ] .
وجعلوا التَّقَدُّم ضرباً من التَّعَاليِ والارتفاع ؛ لأنَّ المأمُور بالتقدّم في أصل وضْعِ هذا الفِعْل ، كأنه كان قَاعِداً فقيل له تَعَالَ ، أي : ارفع شخْصَك بالقِيَام وتقدم ؛ ثم اتَّسَعُوا فيه حتى جَعَلُوه للوَاقِفِ والمَاشي ؛ قال الشَّجَريّ{[15525]} .
قوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } في [ " ما " ] هذه ثلاثة أوجُه :
أظهرها : أنها مَوْصُولةٌ بمعنى " الَّذِي " والعَائِد مَحْذُوفٌ ، أي : الذي حَرَّمَه ، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به .
الثاني : أن تكون مَصْدَريَّة ، أي : أتْل تَحْريم ربِّكُم ، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى ، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به ، أي : أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو .
والثالث : أنها استِفْهَاميَّة ، في محلِّ نَصْبٍ ب " حَرَّم " بعدها ، وهي مُعَلقة ل " أتْلُ " والتَّقْدير : أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم ، وهذا ضعيف ؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها .
قال القرطبي{[15526]} : هذه الآية أمْرٌ من الله -تعالى- لنبِيِّه - عليه السلام - بأن يَدْعُوَ جميع الخَلْقِ إلى سَمَاعِ تِلاوَة ما حرَّم الله -تبارك وتعالى- ، وهكذا يَجِب على من بَعْدَه من العُلَمَاء أن يبَلِّغُوا النَّاس ، ويُبَيِّنُوا لهم ما حُرِّمَ عليهم مما أحِلَّ ؛ قال-تعالى- : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] .
قال الرَّبيع بين خيثم لجَلِيس له : " أيَسُرُّك أن تَقْرَأ في صَحِيفَةٍ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يُفَكَّ كِتَابُها ؟ قال : نعم ، قال : فاقْرَءُوا : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } إلى آخر الثَّلاث آيَاتٍ " {[15527]} .
قال كعبُ الأحْبَار : وهذه السُّورة مفتتح التَّوْرَاةِ : بسم اللَّه الرحمان الرَّحِيم : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآية الكريمة{[15528]} .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : هذه الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ التي ذكرها الله -تعالى- في سُورة " آل عمران " أجمعت عليها شرائِعُ الخَلْق ، ولم تُنْسَخ قط في مِلَّةٍ ، وقد قيل : إنَّها العَشْر كلمات المُنَزَّلة على مُوسَى - عليه الصلاة والسلام-{[15529]} .
أحدهما : أنه مُتَعَلِّق ب " حَرَّم " ؛ اختِيَار البَصْرِيِّين .
والثاني : أنه متعلِّق ب " أتْلُ " ؛ وهو اختيار الكُوفيِّين ، يعني : أن المسألة من باب الإعْمَال ، وقد عَرَفْت أن اختيار البَصْريِّين إعمال الثَّاني واختيار الكوفيين إعْمَال الأوَّل .
قوله : " ألاَّ تُشْركُوا " فيه أوجُه :
أحدهما : أنَّ " أنْ " تفسيرية ؛ لأنَّه تَقَدَّمَها مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه ، و " لا " هي نَاهِيَة ، و " تُشْركُوا " مجزوم بها ، وهذا وَجْهٌ ظاهرٌ ، وهو اختيار الفراء{[15530]} قال : " ويجُوزُ أن يكون مَجْزوماً ب " لاَ " على النَّهْي ؛ كقولك : " أمَرْتُك ألا تذْهب إلى زَيْد " بالنَّصْب والجزم " . ثم قال : والجَزْم في هذه الآية الكريمة أحبُّ إليَّ ؛ كقوله -تبارك وتعالى- : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } [ الأعراف : 85 ] يعني : عَطْف هذه الجُمْلَة الأمْرِيَّة يُقَوِّي [ أنّ ] ما قَبَلَها نَهْي ؛ ليتناسَبَ طَرفاً الكلام .
وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَري{[15531]} أيضاً ؛ فإنه قال : " وأنْ في " ألاَّ تُشْرِكُوا " مفسِّرة ، و " لا " للنَّهِي " ثم قال بَعْد كلام : " فإن قُلْتَ : إذا جَعَلت " أن " مُفَسِّرة لفعل التِّلاوة ، وهو مُعَلَّق بما حَرَّم ربُّكم ، وجب أن يكُون ما بَعْدَه مَنْهِيَّا عنه محرّماً كُلُّهُ ؛ كالشرك وما بَعْدَه مما دَخَل عليه حَرْف النَّهْي [ فما تصنع ] بالأوَامِرِ ؟ " .
قال شهاب الدِّين{[15532]} : " لَمَّا وَرَدَت هذه الأوَامِر مع النَّواهي ، وتقدمَهُنَّ جميعاً فعل التَّحْريم ، واشتركْنَ في الدُّخُول تحت حُكْمه ، عُلِم أن التَّحْريم راجعٌ إلى أضْدَادِها ، وهي الإسَاءة إلى الوَالديْن ، وبَخْسُ الكَيْل والمِيزَان ، وتَرْكُ العَدْل في القَوْل ، ونكْثُ العَهْد " .
قال أبو حيَّان{[15533]} - رضي الله عنه- : " وكون هذه الأشْيَاء اشتركت في الدُّخُول تحت حكم التَّحْريم ، وكون التَّحْريم راجعاً إلى أضْدَاد الأوَامِر ؛ بعيدٌ جدّاً ، وإلغاز في التَّعَامِي ، ولا ضَرُورَة تدْعُو إلى ذلك " .
قال شهاب الدين{[15534]} : " ما اسَتبْعَدَهُ ليس بِبَعيد ، وأين الإلغَاز والتَّعَمِّي من هذا الكلامِ حتى يَرْمِيه به " .
قال ابن الخَطِيب{[15535]} : فإن قيل : قوله : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَانا } كالتَّفْصِيل لِما أجمله في قوله : - تبارك وتعالى- : " ما حَرَّم " وذلك بَاطِلٌ ؛ لأن تَرْكَ الشِّرْك والإحْسَان بالوالِدين واجبٌ لا مُحَرَّم .
الأول : أن المُرَاد من التَّحْريم أن يَجْعَل له حريماً معيناً ، وذلك بأن بَيّنَه بَيَاناً مَضْبُوطاً معيَّناً ؛ فقوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } معناه : أتْلُ عليكم ما بَيَّنَه بياناً شَافِياً ؛ بحيث يجعل له حَرِيماً مضبوطاً مُعَيَّناً ، وعلى هذا التّقدير السُّؤال زائِلٌ .
الثاني : أن الكلام تمَّ وانْقَطع عند قوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ثم ابتدأ فقال : " عليكم ألا تشركوا " .
فإن قيل : فقوله : " وبالوالدين إحسانا " معطوف على قوله { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ فوجب أن يكون قوله : " بالوالدين إحساناً " مفسِّراً لقوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } ] فلزم أن يكون الإحسان بالوَالديْن حراماً ؛ وهو باطل .
قلنا لما أوجب الإحْسَان إليهما ، فقدَّم تحريم الإسَاءة إليها ، والله -تعالى- أعْلَم .
ثم قال أبو حيَّان : وأمَّا عطف هَذِهِ الأوامِرِ فيحتمل وجهين :
أحدهما : أنها مَعْطُوفة لا على المَنَاهِي قبلها ، فيلزم انْسِحَاب التّحْريم عليها ؛ حيث كانت في حيِّز " أنْ " التَّفْسِيريَّة ، بل هي معطُوفةٌ على قوله : { تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أمرهم أوّلاً بأمر يترتَّبُ عليه ذِكْرُ مَناهٍ ، ثم أمَرَهُم ثانياً بأوَامِر ؛ وهذا مَعْنَى وَاضِح .
والثاني : أن تكون الأوَامِر معْطُوفة على المَنَاهِي ، وداخلة تحت " أنْ " التَّفْسِيريَّة ، ويصِحُّ ذلك على تَقْدير محْذُوفٍ ، تكون " أنْ " مُفسّرة له وللمَنْطُوق قبله الذي دَلَّ على حَذْفِه ، والتَّقْدير : وما أمَرَكُم به ، فحذف وما أمَرَكُم به لدِلالةِ ما حرَّم عليه ؛ لأن مَعْنَى ما حرَّم ربكم : ما نَهَاكُم ربُّكم عنه ، فالمعنى : تعالَوْا أتْل ما نَهَاكُم ربُّكم عنه وما أمَرَكُم به ، وإذا كان التَّقْدير هكذا ، صح أن تكُون " أن " تَفْسيريَّة لفِعْل النَّهْي ، الدَّال عليه التَّحريم وفِعْل الأمْر المَحْذُوف ، ألا ترى أنَّه يَجُوز أن تَقُول : أمرتُكَ ألا تكْرِم جَاهِلاً وأكرم عَالِماً " إذ يجوز أن يُعْطَف الأمْرُ على النَّهي والنَّهي على الأمر ؛ كما قال : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَقُولُونَ لا تَهِلِكْ أسًى وتَجَمَّل{[15536]}
وهذا لا نَعْلَم فيه خلافاً ، بخلاف الجمل المُتَبايِنَة بالخَبَر والاستِفْهَام والإنْشَاء ؛ فإن في جواز العَطْف فيها خِلافاً انتهى .
الثاني : أن تكون " أنْ " نَاصِبَة للفْعِل بعدها ، وهي وما في حَيِّزِهَا في محلِّ نَصْبٍ بدلاً من " مَا حَرَّم " .
الثالث : أنها النَّاصِبة أيضاً ، وهي وما في حَيِّزها بدلٌ من العَائِد المحذُوف ، إذا التَّقْدير : ما حَرَّمه ، وهي في المَعْنى كالذي قَبْلَه .
و " لا " على هذين الوَجْهَيْن زائدة ؛ لئلا يَفْسُد المعنى كزِيَادَتِها في قوله -تعالى- : { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، و{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] والتَّقْدير : حرّم ربُّكُم عليكم أن تُشْرِكوا .
قال أبو حيَّان{[15537]} : " وهذا ضَعِيف ؛ لانحصار عُمُوم المحرَّم في الإشْرَاك ؛ إذ ما بعده من الأمْر ليس دَاخِلاً في المُحَرَّم ، ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعَاء زِيَادة " لا " فيه ؛ لظهور أنَّ " لاَ " فيه للنهْي " ، ولما ذكر مكِّي{[15538]} كونها بَدَلاً من " مَا حَرَّم " [ لم يُنَبّه على زيادة " لاَ " ولا بُدَّ منه .
وقد مَنَع الزَّمَخْشَريُّ أن يكُون بدلاً من " مَا حَرَّمَ " ]{[15539]} فقال{[15540]} : " فإن قُلْتَ : هلا قُلْت : فهي الَّتِي تَنْصِب الفْعْل ، وجعلت " ألاَّ تُشْرِكُوا " بدلاً من " ما حَرَّمَ " .
قلت : وجب أن يكُون : ألاَّ تُشْرِكُوا ، ولا " تَقْرَبوا " و " لا تقْتُلوا " و " لا تَتّبِعُوا السُّبُلَ " نواهي ؛ لانعطاف الأوَامِر عليها ، وهي قوله -تعالى- { وبالوالدين إِحْسَاناً } ؛ لأن التقْدير : وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَاناً ، وأوْفُوا وإذا قلتم فاعدلوا ، وبعهد الله أوفوا .
فإن قُلْت : فما تَصْنَع بقوله : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] فيمن قَرَأَ بالفَتْح ؛ وإنما يستقيم عَطْفُه على " ألاَّ تُشْرِكُوا " إذا جعلْت " أنْ " هي النَّاصِبَة ، حتى يكون المَعْنَى : أتْل عَلَيْكُم نَفْي الإشْرَاكِ ، وأتل عَلَيْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مستَقيماً ؟
قلت : أجْعَلُ قوله : " وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيماً " علَّةً للاتِّبَاع بتقدير اللام ؛ كقوله { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] بمعنى : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ، والدليل عليه قراءة بالكسر ، كأنه قيل : واتَّبْعُوا صراطِي ، لأنَّه مسْتَقِيمٌ ، أو : واتِّبِعُوا صِرَاطي أنَّه مُسْتَقيم " .
واعترض عليه أبُو حيَّان{[15541]} بعد السُّؤال الأوّل وجوابه ، وهو : " فإن قلت : " هلاَّ قُلْت هي النَّاصِبَة " إلى : " وبِعهْد الله أوْفُوا " ؛ فقال : لا يَتَعَيِّنُ أن تكُون جمِيع الأوَامِر معطُوفَة على ما دخل عليه " لا " ؛ لأنَّا بيَّنَّا جواز عَطْفِ " وبالوَالِدَيْن إحْساناً " على " تَعَالَوْا " وما بَعْدَه معطوف عليه ، ولا يكون قوله " " وبالوَالِدَيْن إحْسَاناًط معطوفاً على " ألا تُشْرِكُوا " .
الرابع : أن تكون " أنْ " النَّاصِبة وما في حَيِّزها مَنْصُوبة على الإغْرَاء ب " عَلَيْكُم " ، ويكون الكلامُ الأوَّل قد تمَّ عند قوله : " رَبُّكُم " ، ثم ابْتَدأ فقال : عَلَيْكُم ألاَّ تُشْرِكوا ، أي : ألزَمُوا نفي الإشْراك وعدمه ، وهذا - وإن كان ذَكَرَه جماعةٌ كما نقله ابن الأنْبَاريِّ - ضَعِيفٌ ؛ لتفكك التركيب عن ظَاهِرهِ ؛ ولأنه يَتَبَادَر إلى الذِّهْنِ .
الخامس : أنها وما فِي حيِّزها في محلّ نَصْب أو جرِّ على حَذْف لام العِلَّة ، والتقدير : أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم لِئَلا تُشْرِكُوا ، و[ هذا ] مَنْقُول عن أبِي إسْحَاق{[15542]} ، إلا أن بَعْضَهم استَبْعَدَه من حَيْث إن ما بَعْدَه أمرٌ مَعْطُوف بالواو ، ومناهٍ معطوفة بالواوِ أيضاً ، فلا يُنَاسِب أن يكون تبييناً لما حرَّم ، أمَّا الأمْر فمن حيثُ المعنى ، وأمّا المناهِي فمن حيثُ العَطْف .
السادس : أن تكون هِي وما بَعْدَها في محلِّ نصب بإضمار فِعْل ، تقديره : أُوصِيكم ألاَّ تُشْرِكُوا ؛ لأن قوله { وبالوالدين إِحْسَاناً } محمولٌ على أوصِيكُم بالوَالدَيْن إحْسَاناً ، وها مذهب أبي إسْحَاق{[15543]} أيضاً .
السابع : أن يكون " أنْ " وما في حيِّزها في مَوْضع رَفْع على أنها خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : المُحَرّمُ ألاَّ تُشْرِكُوا ، أو المَتْلُوُّ ألا تشركوا ، إلا أن التَّقْدِير بنحو المَتْلُو أحْسَن ؛ لأنه لا يُحْوِج إلى زِيَادة " لا " ، والتقدير بالمحَرَّم ألاَّ تشركوا ، يُحْوِج إلى زِيَادتِها لئلا يَفْسُد المَعْنَى .
الثامن : أنها في مَحَلِّ رفْع أيضاً على الابْتِدَاء ، والخبر الجَارُّ قبله ، والتقدير : علَيْكُم عَدَمُ الإشراك ، ويكون الوَقْفُ على قوله : " رَبُّكم " كما تقدَّم في وجْه الإغْراءِ ، هذا مذهب لأبي بَكْر بن الأنْبَاري ؛ فإنه قال : " ويجُوز أن يكُون في مَوْضِع [ رفع ] ب " على ] كما تقول : " كُتِبَ عليكم الصيَام والحَجُّ " .
التاسع : أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها ، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم ، والتقدير : استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك .
وقد تحصَّلت في محلِّ " ألاَّ تُشْرِكُوا " على ثلاثة أوْجُه : الرَّفْع ، والنَّصْب ، والجرِّ : فالجَرُّ من وجْه واحدٍ ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهِب الخَلِيل والكسَائيّ ، والرفع من ثلاثة أوْجُه ، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه ، فمجموع ذلك عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها .
والثاني : أنه مصدر ، أي : إشْرَاكاً ، أي : شَيْئاً من الإشْرَاكِ .
وقوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } تقدم تَحْرِيره في البقرة [ الآية 83 ] .
قوله -تعالى- : { وبالوالدين إِحْسَاناً } الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن : بِرُّهُما وحِفْظُهما ، وامْتِثَال أمرهما ، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما ، و " إحْسَانَا " نصْب على المصْدر ، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه ، تقديره : وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَاناً .
قوله : " مِنْ إمْلاقٍ " " مِنْ " سَبَبيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه ، أي : " لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ " .
والإملاق : الفَقْر في قول ابن عبَّاس .
وقيل : الجوع بلغة " لخم " ، نقله مؤرج .
وقيل : الإسْرَاف ، أمْلق أي : أسْرف نَفَقَتِه ، قال محمد بن نعيم اليزيدي{[15544]} .
وقيل : الإنْفَاق ، أملق ماله أي : أنفقه ، قال المُنْذِر بن سَعِيد ، والإملاق : الإفْسَاد أيضاً ، قاله [ شمر ]{[15545]} قال : " وأمْلَقَ يكون قَاصِراً ومتعدِّياً ، أملق الرَّجُل : إذا افْتَقَر هذا قَاصِر ، وأمْلَق ما عِنْدَه الدَّهْر ، أي : أفْسَدَه " . وأنشد النَّضْر بن شميل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر : [ الطويل ]
ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ قيَّدَ نَائِلِي *** وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ{[15546]}
أي : تَذْهَب بالمَالِ ، " تَنَبَّلَتْ بما عِنْدي " : أي ذهبت به ، معنى الآية الكريمة : لا تَقْتُلوا أولادكم خَشْيَة العَيْلَة .
وفي هذه الآية الكريمة قال : " نحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم " فقدَّم المُخَاطبين ، وفي " الإسراء " : قدّم ضَمِير الأولاد عليهم : فقال : " نحن نَرْزُقُهُم وإيَّاكُم " فقيل : للتَّفَنُّنِ في البلاغة .
وأحسن منه أن يقال : الظَّاهِر من قوله : " مِنْ إمْلاقٍ " حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه ، فبُدِئ أوَّلاً بالعَدَةِ برزق الآبَاء ؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق .
وأمّا في آية " سبحان " [ الإسراء : 1 ] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر ؛ ولذلك قال : خَشْيَةَ إمْلاق ، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة ، [ فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقهم ، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم ، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي ]{[15547]} للآباء عن قَتْل الأولاد ، وإن كانوا مُتَلَّبِّسِين بالفَقْر ، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين ، ولكن يَخافُون وُقُوع الفَقْر ، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ بمعنى واحدٍ للتَّأكِيد .
قال القرطبي{[15548]} : استدل بَعْضُهم بهذه الآية الكريمة على منع العَزْلِ ؛ لأن قتل الأولادِ رفع للمَوْجُود ، والعَزْل منعٌ لأصْل النَّسْل فتشابها ، إلا أن قَتْل النَّفْس أعظمُ وِزْراً ، وأقبحُ فِعْلاً ، ولذلك قال بعض العلماء : إنه يُفْهم من قوله- عليه الصلاة والسلام- : " لا عَلَيْكُم في العَزْل الوَأد الخَفِيّ " {[15549]} الكراهة لا التَّحْرِيم ، وقال به جماعة من الصَّحابة وغيرهم ، وقال بإبَاحَتِه أيضاً جماعة من الصَّحابة والتَّابعين والفُقَهاء ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : " لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا فإنِّمَا هُو القَدَر " أي : ليس عَلَيْكُم جُنَاحٌ في ألا تَفْعَلُوا " {[15550]} .
وقال جابر : " كنا نعزل والقرآن ينزل لو كان شيء منهيٌّ عنه لنهانا عنه القرآن " {[15551]} .
[ قوله : " ما ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَن " في محلِّ نصب بدَلاً من الفواحِشِ بدل اشْتمالَ ]{[15552]} ، أي : لا تقْرَبُوا ظاهِرهَا وباطنها ؛ كقولك : ضَرْبتُ زَيْداً ما ظهر مِنه وما بَطَن ، ويجوز أن تكُون " مَنْ " بدل البَعْض من الكُلِّ .
و " منها " متعلِّقٌ بمَحْذُوف ؛ لأنه حال من فاعل " ظَهَر " ، وحذف " منها " بعد قوله " بطن " لدلالة قوله " مِنْهَا " في الأوَّل عليه ، قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : " كانوا يَكْرَهُون الزِّنَا علانية وسِرّاً " {[15553]} .
وقال الضَّحَّاك : " ما ظهر : الخمر ، وما بطن الزنا " {[15554]} والأولى أن يُجْرَى النَّهْي على عُمُومه في جَميع الفواحِشِ ، ظاهرها وباطنها ، لا يُخَص بنوع مُعَيَّن .
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } الآية .
فقوله : " إلاَّ بالحقِّ " في محلِّ نَصْب على الحالِ من فاعل " تَقتُلُوا " أي : لا تَقْتُلُوها إلاَّ مُتَلَبِّسِين بالحق ، ويَجُوز أن يكون وَصْفاً لمصدر مَحْذُوف ، أي : إلاَّ قَتْلاً متلَبساً بالحقِّ ، وهو أن يكون القَتْل للقِصَاصِ ، أو للرِّدَّة{[15555]} أو للزنا{[15556]} بشرطه ، كما جاء مبنياً في السُّنَّة .
قال القرطبي{[15557]} : وتَارك الصَّلاة ، ومَانِع الزَّكَاة ، وقد قتل الصِّدِّيق مانع الزَّكَاة ، وقال -تعالى- : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
قوله : " ولا تَقْتُلُوا " هذه شبيهة بذكر الخاصِّ بعد العامِّ اعتناءً بِشَأنهِ ؛ لأن الفَواحِش يَنْدَرج فيها قَتْل النَّفْس ، فجرَّد منها هذا اسْتِفظَاعاً له وتَهْويلاً ؛ ولأنَّه قد استَثْنَى منه في قوله : " إلاَّ بالحقِّ " ولو لم يَذْكر هذا الخَاصَّ ، لم يَصِحَّ الاستِثْنَاء من عُمُوم الفَوَاحش ، لو قيل في غَيْر القُرآن العظيم : " لا تَقْرَبُوا الفواحش إلا بالحقِّ " لم يكن شيئاً .
قوله : " ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به " في محلّه قولان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، والخبر الجُمْلَة الفِعْليَّة بعده .
والثاني : أنه في محلِّ نصب بفعل مُقدَّر من مَعْنَى الفِعْل المتأخر عنه ، وتكون المَسْألة من باب الاشْتِغَال ، والتقدير : ألزَمَكُم أو كَلَّفَكُم ذلك ، ويكون " وصَّاكُمْ بِهِ " مفسِّراً لهذا العَامِل المقدَّر ؛ كقوله – تعالى - : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإنسان : 31 ] ، ونَاسَب قوله هنا : " لَعَلَّكُم تَعْقِلُون " لأن العقل مَنَاط التَّكْليف والوَصيَّة بهذه الأشْيَاء المَذْكُورة .